روائيات عراقيات على قائمة البوكر

1٬916

آيه منصور حسن/

قد تبدو الفكرة السائدة والروتينية عن الأدب النسوي، محصورة بالعاطفة والبكاء لفقدان المرأة حبيبها الذي لم تفلح محاولاتها في الحفاظ عليه، إلا أن للبوكر، الجائزة العالمية الأشهر للرواية، وفي نسختها العربية تحديداً، حصة من الكتب النسائية المدهشة، ومن الطبيعيّ أن يكون هناك حضور للروائية العراقية التي ولدت ـ كسائر العراقيين ـ في أتون حروب لا تنقطع، لتنضج في لهيبها وتترك لنا عديداً من الحكايات المدهشة في روايات دخلت سباق البوكر الطويل.

هنا إطلالة على روايات البوكر التي كتبتها روائيات عراقيات.

الحفيدة الأميركية: الغربة هنا وهناك

الرواية الأولى التي حظيت بترشيح البوكر كانت “الحفيدة الأميركية” للروائية إنعام كجه جي. حكاية امرأة عراقية، تعيش في أميركا، تعود الى البلاد كمجندة في صفوف الجيش الأميركي كمترجمة. هكذا وببساطة. “زينة” التي تقدم طلبها لوظيفة “حرجة” لم تنس لغتها الأم برغم فرار والدها من البطش الدكتاتوري لنظام صدام. عادتْ لبلادها مع “الجيش المحتل” لتوقظ رياح البلاد ذكرياتها الهائلة التي ظنت زينة أنها قد نسيتْها تماماً لتعود لمواجهة هذه العاصفة مرة أخرى، مواجهة روحها الجديدة المتعلقة بذلك الماضي. حينها ستتعامل زينة مع المكان على أنه آلة بشريط يعيدها نحو جذورها بصورة عكسية تستعرض فيها كل ذكرياتها. ثم لتتأكد بعد سنوات من العيش في بلاد غريبة، أنها حقاً غريبة، وأن المسافات الطويلة لم تمحُ الأشخاص

والأشياء والأماكن والروائح من ذاكرتها.

تأتي صور الرواية المتسلسلة على هيئة سرد طويل لـ “زينة” التي تتحدث عن تجربتها في البلاد، إذ تروي كلّ ما تتذكره، وتنتقل من حكاية لأخرى دون توقف، ابتداءً من جدتها وعدم جرأة زينة على الإفصاح عن حقيقة عملها، إذ تربطه بالأمم المتحدة يوماً وبمنظمة إنسانية مرة أخرى هرباً من كشف الحقيقة، ثم تتحدث زينة كذلك عن حيدر، شقيقها في الرضاعة وأخيه مهيمن (في جيش المهدي) والذي تبدأ بالتقرب منه والتودد له برغم رفضه الشديد ـ كونها تعتبر اخته – لتظل في بغداد شبه وحيدة، ثم لترجع مرة أخرى الى بلادها الغريبة بعد وفاة جدتها، ويبدأ شعورها الحقيقيّ بعدم الانتماء لذلك المكان.
تحت سماء كوبنهاكن: النفي العميق
الرواية الثانية التي طرقت أبواب البوكر كانت “تحت سماء كوبنهاكن” للكاتبة حوراء النداوي. تنقل الرواية معاناة الجيل الأول من المغتربين العراقيين في أوروبا. إذ تناولت الرواية “وهي الأولى للنداوي” تصادم الأبوين القادمين من الشرق مع منظومة الفكر الغربي ومعاناتهم في تربية أبناء ولدوا في بيئة مغايرة تماماً عن مجتمع آبائهم الذي يقع في الضفة الأخرى البعيدة مكاناً وأعرافاً وتقاليد.
تسرد الرواية حكاية “هدى” العراقية المولودة في كوبنهاكن من أبوين فرّا بملابسهما التي تستر جسديهما بحثاً عن حياة آمنة، بدأت رحلة التيه من شمال العراق تاركين ابنهما البكر “عماد” لدى جديه. ليولد لهما في بلاد الغربة ابنتان هما “نخيل” و”هدى” ومن خلال البنت الأخيرة تتضح دواخل المنفيين ولوعة أرواحهم المتشابكة بالاسئلة.

تقرر هدى أن تحافظ على نمط حياتها الخاص مهما كلف الأمر، برغم الضغوط التي تواجهها “كمغتربة” لكنها تقع تحت ضغط ثقافتين: الأولى موروثة تكبلها إلى الماضي الذي لم تره، والثانية ثقافة المجتمع الغربي الذي ترعرعت فيه.

عائلة هدى مثال للتحوّل الجذري. إذ يتعرف والد هدى على والدتها في بغداد حينما هرعت إلى محله هرباً من الشرطة التي كانت تصبغ سيقان النساء اللواتي يرتدين الميني جوب. وتنشأ علاقة الحب بينهما. يلاحظ القارئ التغيرات التي ستبدأ بالتزامن مع الشعور بالنفي والعزلة. فالأب يميل إلى قيم وعادات الجالية لأنها توفر له شعوره بالانتماء حتى وإن كانت تلك العادات “خاطئة”. وهو الأمر الذي أصبحتْ عليه أم هدى هي الأخرى التي تبدأ بارتداء الشال ثم الحجاب فشراء لوحات لآيات القرآن وتعليقها في المنزل، بينما تمسّك الوالد برغم ذلك بكأس شرابه!

بيئة ازدواجية ستؤثر على سلوك هدى الذي سيكون مضطرباً كثيراً، فتبدو غير واثقة من نفسها، مترددة، وتقوم بأفعال بالضدّ من إرادتها، كما تواجه البيئة الحقيقية خارج المنزل. فتقلص علاقاتها إلى أبعد حدّ، وتعيش نظرة ازدراء مصحوبة بشيء من العنصرية، ولتظلّ غريبة كلياً وسط عائلتها والمجتمع. وهو وضع سيبقيها في دائرة من الحيرة والتساؤلات الملحة من دون أجوبة.

طشاري: مقبرة إلكترونية

أما الرواية الثالثة فكانت من نصيب كجه جي أيضاً وعنوانها “طشاري”، عن طبيبة (اسمها وردية) عاشت كل حياتها في مشفى الديوانية لتوليد النساء. تسجل لنا حكايتها من بلاد برج إيفل! وردية الموصلية أول طبيبة توليد تدخل محافظة الديوانية، تتآلف بصورة غريبة مع سكانها ونسائها اللواتي يحببنها ويدعين لها عند الأئمة في كربلاء والنجف. لكنها لا تخبرنا حكاية وحيدة واحدة، بل تنقل لنا عالماً من الألفة والمحبة بين العراقيين، عالماً يكاد ينقرض. تقرر وردية البقاء في العراق بعد مغادرة جميع أولادها إلى المنافي، تبلغ الثمانين من عمرها وتضطر إلى السفر وحيدة إلى باريس لتبقى رهينة آمالها بلمّ الشمل مجدداً في مكان واحد، لكن يأتي “اسكندر” حفيدها الذي لا يعلم شيئاً عن وطن أجداده، ليجمعهم من خلال مقبرة الكترونية، يلقي فيها رفات أقاربه الذين ماتوا خارج العراق، من أجل أن تطمئنّ والدته وأقاربه على موتى العائلة!

ريام وكفى: حيث يتبخر الرجال

“ريام وكفى” عنوان رواية هدية حسين، التي تأخذنا من خلالها إلى عالم أنثوي وحيد خالٍ من كل ملمح ذكوري، حيث تكون المرأة حجر الزاوية في الكتاب.

ريام، الاسم الأول الذي أطلقته عليها أمها، و”كفى” اسمها الآخر الذي سماها بها أبوها الذي ضجر من إنجاب الإناث. والدة ريام خياطة، تعمل على ماكنتها لساعات طوال لتوفر حياة سوية لبناتها، بعد زواج والدهن من أخرى. الفتيات يكبرن وفق شروط تربية الأم الخاصة. ولهذا فإن الرجال في هذه الرواية سرعان ما يتبخرون، إذ يموت الأب، ويتبعه أخوه عمّ ريام ثم مختار الذيب التاجر الذي كان بمثابة “أب” ثانوي – وإن لم يسدّ الفراغ الذي تركه غياب الأب الحقيقي- وستحيا ريام حيرة كبيرة وتحاول جاهدة العيش وفق أحلامها، حينها ستبدأ باتخاذ قرارات “صادمة” لإنقاذ روحها من دوامات الحياة.

ذوات غريبة

في الروايات جميعها، نساء تبدأ علاقاتهنّ بأواصر منزوعة مع منبتهنّ بسبب الخوف الوطن الأمّ الذي لم يمنحنهنّ القدر فرصة الولادة فيه أو حبّه. وإذ يتراكم الحنين فوق صدورهنّ ويجثم عليهنّ يصرخن بسبب هذه الغربة التي تفقدهن كل الخيوط التي تصلهنّ ببلدان استقبلتهن وآوتهنّ كأمّ رؤوم.