رواية كافكا على الشاطئ.. البحث عن البوصلة المفقودة
حربي محسن عبدالله/
الروائي هاروكي موراكامي (مواليد 12 كانون الثاني/ يناير 1949) هو كاتب ياباني من مدينة كيوتو. لاقت أعماله نجاحاً باهراً حيث تصدرتْ قوائم أفضل الكتب مبيعاً سواء على الصعيد المحلي أو العالمي وترجمت إلى أكثر من 50 لغة. حصل موراكامي أيضاً على جوائز أدبية عالمية عدة منها جائزة عالم الفنتازيا (2006) وجائزة فرانك أوكونور العالمية للقصة القصيرة (2006) وجائزة فرانز كافكا (2006) من أبرز أعماله “مطاردة الخراف الجامحة” و”الغابة النروجية”، “وكافكا على الشاطئ”.
نحاول هنا أن نلقي الضوء على رواية “كافكا على الشاطىء”، ترجمة إيمان حرز الله، وقد صدرت عن المركز الثقافي – بيروت.
غالباً ما تّتسم أعمال موراكامي بالسريالية والسوداوية والقَدَرية، كما تتناول معظم رواياته موضوع الانسلاخ الاجتماعي والوحدة والأحلام. ويُعد موراكامي من أهم رموز أدب ما بعد الحداثة. والرواية التي بين يدينا خلطة عجيبة من الواقعية السحرية والكابوسية فلم يأت اسم كافكا عبثاً – وهو اسم بطل الرواية الشاب-
علاقات فاشلة
وفرانز كافكا Franz Kafka هو أديب تشيكي كتب باللغة الألمانية روايات و مقالات، وكان له أسلوب كتابي فريد يطغى عليه العبارات الطويلة المعقّدة التركيب ولكنها واضحة ودقيقة جداً، ومواضيعه مميّزة عن العالم الحقيقي، لكن في نفس الوقت مليئة بأحلام و كوابيس وصراعات نفسية داخلية تعبر عن قلق وعزلة إنسان القرن العشرين وتهميشه وتحجيمه. حياة فرانز كافكا الخارجية وإتصاله بالمجتمع من حوله كان عادياً جداً بعكس شخصيات رواياته التي كات محاصرة اجتماعياً، و تعيش في كوابيس وصراعات داخلية تحاول أن تتخلص منها. فقد ولد كافكا في عائلة يهودية غير متزمّتة ودخل جامعه براغ ودرس فيها الحقوق واشتغل في شركة تأمين. كانت الصراعات النفسية والكوابيس التي ظهرت في رواياته وقصصه مرتبطة بعلاقته بأبيه المتسلّط وعلاقاته العاطفية الفاشلة وعمله الممّل في مكاتب التأمين. من أشهر رواياته “المسخ” و”القلعة” و”المحاكمة”. وكذلك كانت علاقة بطل هذه الرواية “كافكا تامورا” مع أبيه الفنان التشكيلي. ومن الطريف أن نعرف أن كافكا يعني الغراب باللغة التشيكية وكذلك الاسم الثاني “لكافكا تامورا” أي “كرو” باللغة اليابانية وهو الشخص الذي يحدّثه البطل في خلواته وكأنه صوت عقله الباطن.
كلمات بلا حروف
“كافكا على الشاطىء” هو أيضاً عنوان أغنية على أسطوانة تقول كلماتها: تجلس على حافة العالم.. وأنا في بحيرة بركانية مبدّدة.. كلمات بلا حروف.. تقف في ظلال الباب.. نور القمر يشعّ على سحلية نائمة.. والسماء تمطر سمكاً صغيراً.. وخارج النافذة جنود.. يسرقون أنفسهم لكي يموتوا.. كافكا جالس على كرسي على الشاطىء، يفكر في البندول الذي يحرك العالم.. يبدو أنه..عندما ينغلق قلبك، يصبح ظل طائر الفينيق الجامد.. سكيناً يقطّع أحلامك.. أصابع البنت الغارقة.. تبحث عن حجر المدخل، والمزيد.. ترفع طرف ثوبها اللازوردي، عيناها تحدّقان… في كافكا على الشاطىء.
نجد أنفسنا في جوّ غرائبي “ميتافيزيقي” فلسفي، تدخل الموسيقى والأدب والفلسفة وألف ليلة وليلة كهامش يبني أفكار المتن. رجل عجوز يجيد محادثة القطط، أسماك تهطل من السماء، جنود يعيشون في غابة منذ الحرب العالمية الثانية، حجر سحري قد يقود إلى خراب العالم أو خلاصه. ثمة حكايتان متوازيتان متقاطعتان عن شخصين، عجوز يبحث عن نصف ظله الضائع، وفتى في الخامسة عشرة هارب من لعنة أبيه السوداء. وبينهما عوالم ومدن وشخصيات ورحلات شبه ملحمية تدور جميعها حول البحث عن الحب، ومعنى الموت وقيمة الذكريات. رواية لا تدفع كل واحد منّا إلى تأمل الحياة فحسب. بل تستفزّه لكي يغيرها او ليغيّر نفسه فيها ويبدأ رحلة البحث عن بوصلته الضائعة. وهناك نوع من تأمل الحياة يدعى التأمل التجاوزي تنتشر مدارسه في بلدان الشرق الأقصى، ومنها اليابان حيث تجري أحداث الرواية. وهو عملية معاكسة لعملية التفكير، فعندما يتطور التفكير يصبح تعبيرياً أكثر. فيتحول إلى كلام وأفعال. إنه التعبير الخارجي للوعي الصافي. ففي “التأمل التجاوزي” يرجع العقل إلى أرقى حالات التفكير، وفي النهاية يصل إلى مصدر الأفكار، ومن هناك يصل إلى مستوى يُسمى “الوعي الكامل”. ويزيد هذا التمرين من مستوى الوعي. ويدفع المرء دائماً إلى اتخاذ القرارات الصحيحة، وهذه القرارات جميعها تكون متناغمة مع قانون الطبيعة التطوري. وبذلك تزداد حياة الإنسان تطوراً واعياً تبعاً لقوانين الطبيعة. وذلك مايزود الإنسان بطاقات هائلة سواءً الواعية منها أو طاقات عقله الباطن أو اللاواعي. لذلك نجد هذا التدفق السردي في المسارين الواعي واللاواعي بشكل متناغم ويكمّل بعضه بعضاً. فيتناوب المساران بيسر و يختلطان بسهولة. يقول هاروكي موراكامي: “ما أريده هو القوة على تحمّل الأشياء ، مثل الظلم، سوء الحظ ، الحزن، الأخطاء، سوء الفهم”.
شفرة يفهمها القلب
يفرد الكاتب في ثنايا الرواية مساحات عديدة للموسيقى. فمما لا شك فيه أن تفوّق الموسيقى على الأدب، والدراما، والرسم، والشعر، ناجم عن لا قيديّتها، وعن استجابتها المباشرة إلى البديهة أو اللاوعي. هذا لأن من أعظم مزايا الموسيقى هو أنها تستطيع التعبير عن أي شيء، وكل شيء في شفرة يفهمها القلب دون تدخّل من الذهن الواعي. لذلك يتوقف الكاتب بإجلال أمام الموسيقى الكلاسيكية ويأخذنا إلى عوالمها عبر هايدن “الذي كان لغزاً. لا أحد يعرف حجم العواطف الجيّاشة التي كانت تعتمل بداخله. وكان عليه مع هذا- في زمن الإقطاع الذي وُلد فيه- أن يخفي ذاته الشخصية بمهارة وبكل طاعة، ليظهر بمظهر الشخص السعيد الراضي. ويشبّه بييرفوزيه وهو عازف تشيللو للكونشرتو الأول لهايدن، بأنه “كالنبيذ الفاخر لعزفه مذاق وجوهر يدفيء الدم ويشجعك بشكل رقيق”. وبيتهوفن ومعاناته من الصمم وإصراره على الاستمرار في تأليف الموسيقى لينجز لنا “ثلاثية الأرشيدوق”. ثم بوتشيني الذي أحبه فوضع على لسان أحد أبطاله ليؤكد محبته لموسيقاه قائلاً: “موسيقاه كأنها العدو اللدود للزمن، لأنها لا تصدأ أبداً”. وهؤلاء هم الفنانون القادرون على تجنّب الإسهاب.
ومن الموسيقى يأخذنا الكاتب إلى تأمّل الطبيعة الإنسانية وتواصلها مع الطبيعة الأم فيشبّه الجوانب المظلمة في دواخلنا قائلاً: “عالم الغيبيات هو الظلام الذي في داخلنا. قبل فترة طويلة من إلقاء فرويد ويونغ الضوء على طريقة عمل العقل الباطن، حيث يتداخل اللاوعي بالعتمة. كان هذان الشكلان من العتمة واضحين للناس. وإذا تتبعت الأمر إلى الوراء فستجد أن العلاقة بينهما لم تكن متداخلة حتى. قبل أن يخترع أديسون الكهرباء، كان أغلب الناس يعيش في الظلمة. وكانت الظلمة الخارجية الفيزيقية والظلمة الداخلية في النفس يتداخلان معاً دونما فاصلة فيتصلان ببعضهما مباشرة”. من هنا تكون الغابة في الرواية التي يذهب إليها كافكا وهو بين اليقظة و الأحلام يمشي فيها كالمسرنم، رمزاً لهذا الترابط والتداخل. بعيداً عن الحضارة التي يعرّفها جان جاك روسو بأنها عندما يبني الناس الأسوار. لأنك “عندما تكون في الغابة تصير جزءاً لا يتجزأ منها، وحين تكون في المطر تصير جزءاً من المطر”.
وفي موضع آخر يتوقف الكاتب أمام معنى المتاهة ليصدمنا بما يذكره عنها، وهو أمر في غاية الطرافة حول سكان بين النهرين وكيف كانوا يتنبأون بالمستقبل عبر أمعاء الحيوانات، فقد كانوا معجبين بالتكوين المعقّد للأمعاء، ولهذا “يقول الكاتب ” فإن “أساس كلمة المتاهة، هو كلمة الأمعاء. وقد جاءت من بلاد ما بين النهرين، مما يعني أن مبدأ المتاهة بداخلك، ويتداخل هذا مع المتاهة الخارجية. بمعنى أنه مجاز تبادلي. فالأشياء خارجك ليست سوى انعكاس ظاهري لما في داخلك، وما في داخلك انعكاس لما هو خارجك. ولهذا فحين تدخل متاهة في الخارج، تكون في الوقت نفسه قد دخلت إلى متاهة الداخل، وهو أمر بالتأكيد، ينطوي على خطر”.
ختاماً نقول: رواية “كافكا على الشاطىء” مع طولها الذي يصل إلى ما يقارب 700 صفحة من القطع الكبير، هي سفر من المعرفة ورحلة من المتعة وهي رواية شغف بكل مناحيها ومساراتها ومستوياتها المتعددة من الفكري إلى الرومانسي إلى الايروتيكي. يقول تيم أدامز الصحفي في الغارديان: (إن متعة أسلوب موراكامي السردي أنك لا تعرف أبداً أين تنتهي الأحلام ويبدأ الواقع. فموهبة موراكامي ترتكز على مقدرته على خلق مشهديات أقرب للهلوسة حيث كل ما يحدث له منطقه الخاص ويتمتع بالكثافة الإيروسية للفنتازيا). أو كما تقول لورا ميلر الكاتبة الصحفية في “ذي نيويورك تايمز ريفيو” : (بينما يستطيع أي كاتب أن يخبر قصة تشبه الحلم، وحده الفنان النادر، مثل هاروكي موراكامي، يجعلنا نشعر أننا نحلم هذه القصة بأنفسنا).