زياد جسّام صياد يبحــث عــن اللؤلــــؤ في قاع النهر

305

حسن العاني/

استقبلت قاعة المعهد الفرنسي، أوائل مايس السنة الحالية 2023، معرضين في وقت واحد أو مدرستين من مدارس الفن التشكيلي وما لا يحصى من الفنطازيات المدروسة بعناية… ربما كان في مقدمتها أن المعرضين والمدرستين هما لفنان عراقي واحد، بدأ اسمه منذ سنوات ليست قريبة يفرض حضوره المتصاعد.
ضم المعرض 26 لوحة، خمس منها زيتية تمثل التّوجه “التعبيري” وهو الأسلوب الذي اختطَّه الفنان لنفسه، حيث الكثافة اللونية مع الاختزال والابتعاد عن تفاصيل الوجوه التي قد تقترب من الواقعية، و21 عملا؛ بعضها مما يعلق على الجدران وكأنَّها مشتغلة بمواد مختلفة، وبعضها الآخر توضع على مناضد تتناسب مع حجمها، كما لو كانت تحفاً، ذلك لأن هذه الواحد والعشرين عملاً تعبّر عن هوية انتمائها الفني الى ما يعرف باسم الفن “التركيبي” . ومن هنا يبدو زياد جسّام وكأنَّه – وهذا هو الواقع – يمتّع زوار معرضه بهذا التنوّع في أعماله، أما الزوار من زملائه الفنانين فيقول لهم بلغة الصمت المؤدب: أنا امتلك مهارة التركيب مثلما امتلك مهارة الزيت !! وما كان له أن يدلي بهذا التصريح السّرّي المبطّن، لولا معطيات اللوحات التي ضمها المعرض بنوعيها ” التعبيرية والتركيبية” تؤكد هذه الحقيقة – جدير بالتنويه هنا أن تجربة زياد في ميدان الفن التركيبي ليست وليدة هذا المعرض، فلديه بضع محاولات سابقة – ولكن بعيدا عن التصريحات السرية المفترضة هناك مجموعة أسئلة قد تكون متداخلة شغلت بالي على غرار.. لماذا هذا التفاوت الفردي اللافت للنظر بين المدرستين؟ نعم .. لماذا ( 5 ) مقابل (21) عملاً تركيبياً؟ هل هو من باب إثبات الوجود في تجربة فنية شبه جديدة؟ وأخطر الاسئلة.. هل الأعمال الزيتية قدّمت نفسها بصفة التابع للأعمال التركيبية؟ وهل يعني هذا أن فناننا الجميل رسّام ينتمي الى الفن التركيبي وأراد تجربة حظّه مع الزيت؟ وهذا مردود لأنَّ حفنة المعارض سواء الشخصية او المشتركة جميعها تؤكد أن ابن جسّام من برج الزيت ومن سلالة الزيت وأن الألوان الزيتية هي البديل البيولوجي للدماء التي تسري في أوردته وشرايينه وشهقات روحه!!.
الذي يقود الى محنة هو تواصل الأسئلة التي قد اتهرب منها تحت أي عذر، وما أكثر الأعذار، او أجيب عليها لاحقاً اذا اهتديت الى مفارقات هذه اللعبة الفنية الانيقة التي تصلح أن تكون معركة لغط وقيل وقال ومناوشات فلسفية تليق بالمثقفين الكبار… ولكن ما لا يصح عبوره يكمن في الأشكال التي يطرحها اسم المعرض (قاع النهر) وحلّها يقتضي الاحتكام الى عقلية ناقد أدبي مخضرم – افتقر بالتأكيد الى مثل هذه العقلية – ومع ذلك أجازف وأقول إن فهم هذا العنوان بإحالة مفرداته الى اللغة القاموسية يجعلنا تحت طائلة السذاجة، ولذلك لا مناص من اللجوء الى معطيات الرموز التي تبحث عن ناقد بقدرات فلسفية، لأنه سيتوصل الى غير ما اتوصل اليه من إشكاليات العنوان والرموز، فالنهر هو الماء، والماء في المعتقدين الشعبي والديني هو الخير، او رمز الخير الذي منه كل شيء حي، وما يخفيه أو يحويه هذا الخير- أعني الماء او النهر- سواء تحت هدوئه الجميل او موجه الصاخب، هو ذاكرة وذكريات أزمنة دمّرتها الحضارة وذبحت بساطتها، وعلى هذا الأساس، فإنّ القاع هنا تعبير موفق وإشارة علنية الى الماضي وذكرياته التي تم تجسيدها بمفردات الحياة اليومية – بغضّ النظر عن عنوان الماضي؛ سواء هو الامس القريب ام البعيد – وذلك بعد أن أفل دور تلك المفردات وغابة نكهتها وأتت عليها تكنولوجيا العصر، وبناء على ذلك فإن مفردة (قاع) والحالة هذه تمثّل (ما كان) وليس ما هو كائن، وتعود بالزائر الى (الفانوس) لا الى المصباح المضاء بالطاقة النووية مثلما تعود به الى عهود غير عهده الماثل، ليس بدءاً بالأدوات الموسيقية مروراً بالطابعة وحقيبة الختانين والعُمل المعدنية والساعة ونوع الأحذية و… وليس انتهاء بتلك القارورة الفخارية التي تحتوي على ما كان يخزنه أثرياء البلاد وسلاطينها او ولاتها .. الى آخره .. إن الزمن او المرحلة مفتوحة ..
هذا المشهد الفني (قد) يقودنا الى الاعتقاد بأن الفنان (الشاب) استوحى حنين الأجيال الأكبر منه الى (أيامهم) أكثر ممّا كان يعبّر عن نفسه، وفي هذه الحالة لابد لجيل العجائز أن يرفع القبعة للفنان تكريما لتكريمه هذا الجيل، ولكن ما هو أهم، بل وأجمل ما تراءى لي، أن هذه المقتنيات – التي لا أدري أية مصاعب واجه الفنان لتوفيرها وتحويلها الى أعمال فنية – في حال الإقرار بأنها الماضي والمراحل الزمنية التي عبرناها مقارنة بالتطورات الهائلة والسريعة، ستبقى هي الأكثر براءة وبساطة وتعبيرا عن أيامها، بمعنى أنها بصورة من الصور ترمز الى الخير بدليل تلك العلاقة الوطيدة بينها وبين النهر او الماء الذي – كما سبقت الإشارة – منه كل شيء حي، واذا ما تواصلنا مع الرمز واقتربنا منه خطوة جديدة، ستقول لنا اللوحات الزيتية التي استوحت حضورها من دجلة، بأن الماء حفظ في ذاكرته وحافظ على ما يمكن الحفاظ عليه من عناوين الماضي ورموزه الحياتية الخالية من العقد ودوخات الرأس قبل أن تتولى حضارة البارود والرؤوس النووية والصواريخ عابرات القارات، تدمير أزمنة الدفء والمحبة، واذنْ فالقاع هو ذلك الخزين الثمين من التواريخ والازمنة محمولة بعناوين المقتنيات التي اتمنى أن يكون ابن جسّام أراد أن يقول لنا بأن هذا القاع العظيم ليس مجرد مقتنيات، بل هو أساس النهر وهو القاعدة التي نهض الماء فوقها، وأن النهر كان وفيا لقاعدته ومحتوياته فأخفاها بعيدا عن أيدي العبث والخراب والدمار وعيون الحسّاد وعن الذين ينظرون الى الأمس بازدراء!.
بناء على ذلك فإن التفاوت في العدد، والمقارنة ببين (5) وبين (21) في خدمة القاع، وتوضيح مدلولاته ومعانيه، خاصة أن الفن التركيبي فن الافكار والمعلومات و… لو اقتنع أحد مثل اقتناعي بأن (قاع) زياد جسّام هو (أساس) البناء الكبير متمثلا بالماء والنهر، فإن ما حصل على وجه التحديد يؤكد بأن الماء هو الابن الشرعي والابن الوفي للقاع، وبحكم وفائه فقد حرص على حماية (أساسه) من الارتجاج العمراني والاخلاقي الذي يتعرّض له مجتمعنا بطريقة العداء العلني التي يمارسها زحف حضاري مجنون، تفوق سرعته سرعة فهمنا واستيعابنا وإدراكنا مئة مرة.. بيننا وبين هذا الزحف مسافة الف سنة ضوئية بدليل أننا نحمل الموبايل باليد اليمنى، ونحمل باليسرى الفصل العشائري.. وأياً كان القول فإن هناك عملية تبادل إيجابي بين القاع والنهر، بغضّ النظر عن رأي الفنان وما يقصده.. مع أو ضد .. وبغضّ النظر عن إبداعه الكبير سواء على المستوى الفني أم الرمزي ..