زيارة شخصية لمنازل آلن بو، ويتمان، والسياب

691

فليحة حسن/

منذ اللحظة الأولى التي وطأت بها قدماي الأراضي الامريكية، تبادر سؤال الى ذهني مفاده: كيف كان يعيش الشعراء هنا في هذه الأرض المختلفة بكل شيء؟ وكان عليّ أن أجد لسؤالي هذا جواباً. لذا بدأت أبحث في محرك البحث (غوغل) عن الشعراء الأمريكان الذين ذاع صيتهم ووجدوا لهم حظوة بين أقرانهم من المبدعين،
ولانني أسكن في ولاية نيوجرسي، كان لابد لي ان ابحث عن الشعراء الذين عاشوا في تلك الولاية أو بالقرب منها. اولاً اهتديتُ في بحثي الى اسمين مهمين إلا وهما (ادغار الن بو -الشاعر والكاتب الذي ولد في 1809 وتوفى عام 1849- وولت ويتمان – صاحب “اوراق العشب”، كان بيت الأول يقع في مدينة (فلدافليا) التابعة لولاية بنسلفانيا التي تبعد عن محل سكناي نصف ساعة فقط، في معلومات الاتصال الخاصة بهذا البيت وجدت رقم هاتف اتصلت به واخبرتهم برغبتي في زيارة بيت ادغار الن بو وسألتهم كم تكلفني تلك الزيارة؟
اجابني من ردَّ على الاتصال وكان صوتاً نسوياً :
– اهلاً وسهلاً بك، الزيارة مجانية لكننا نريد ان نعرف معلوماتك الشخصية قبل الحضور كي نأمن لك سلامة الوصول، اعطيتهم أسمي وعدد الزائرين، الذين كانوا أنا وأولادي، وعمر كل منا، فأخبرتني ان اليوم المناسب للزيارة سيكون يوم السبت المقبل لوجود عدد كبير من الزائرين هناك، وأكدتْ:
– لكن يجب ان تصلي في الوقت المناسب لان الابواب تغلق بعد دخول العدد المسجل في الزيارة مباشرة، كان يوم السبت ماطراً ذهبت الى العنوان المخصص للبيت فوجدت من يستقبلني على الباب، وما ان دخلت واولادي حتى تم اغلاق الباب وبدأت المرشدة تتجول بنا في ارجاء البيت، اخبرتنا ان ادغار كان من عائلة كبيرة وان عائلته عاشت في بيوت عديدة وان الحكومة اشترت تلك البيوت من مالكيها كي تصنع متاحفاً تضم مقتنيات هذا الشاعر،
غرف البيت كانت مغطاء بأثاره، أوراقه، مسودات الكتابة، الاقلام التي كان يعتقد انه استعملها، الصحف التي تحولت الى اللون الأصفر كانت مؤطرة بزجاج عازل سريره وغرفة النوم التي شاركته بها زوجته الشابة التي ماتت في ريعان صباها. تجولنا في البيت الذي كانت رائحته تعج برائحة الابداع، ونزلنا الى الدهليز أو القبو الذي يُعتقد ان ادغار الن بو كان قد كتب فيه قصته المرعبة (القط الأسود) كانت جدران الدهليز محفورة بصورة تجسد الرعب وظل قطة يخيم على المكان، خاف صغاري من المكان فسارعوا الى الصعود الى الاعلى أما انا فبقيتُ أستقرأ الحكاية، بعدها تمتْ دعوتنا الى مشاهدة عرض سينمائي عن حياة ادغار واهم انجازاته الابداعية، وحين انتهينا من تلك الرحلة الجميلة وهممنا بالمغادرة اعترضتنا عند بوابات الخروج دمى على هيئة الشاعر ادغار الن بو مصممة باحجام مختلفة اصغرها كان يصلح لوضعه في حمالة المفاتيح، وكانت تباع باسعار ليست رخيصة، عرفتُ فيما بعد إن المبالغ التي تجنى منها تنفق على صيانة البيت وترميمه، أما العاملون فيه فعادة يكون عملهم تطوعيا واغلبهم ممن حصلوا على الدكتوراه أو الماجستير في أعمال الشاعر.
الشاعر الآخر الذي حظيت بفرصة زيارة بيته هو والت ويتمان المولود عام 1819 والمتوفى 1892صاحب أوراق العشب، الكتاب الذي قرأته مترجماً الى اللغة العربية بصفحاته العديدة جداً حين كنت في العراق، ويوجد هذا البيت في مدينة (كامدن) التابعة لولاية نيوجرسي إلا ان هذه المدينة تعد من أخطر المدن الأمريكية حيث يسكنها الزنوج ويتعرض زائروها الى خطر كبير قد يؤدي الى فقدان الحياة أو الاعاقة الجسدية، والسبب في ذلك انها من المدن التي تباع بها المخدرات والاسلحة كما تباع السجائر في المحال العامة، لكن رغبتي في زيارة بيت الشاعر انستني تلك الخطورة وجعلت افتش عن طريقة يمكنني بها الوصول اليه، ما ان دخلت الى بيته حتى واجهتني صورة كبيرة توضح المقتنيات القديمة لذلك البيت بتفاصيلها الدقيقة التي حرص العاملون فيه على الحصول عليها – كما أوضح لنا المرشد -الذي بدأ يشرح لي كيف تم العثور على تلك المقتنيات وتجميعها حسب الصورة التي وجدت مع الشاب الذي كان يقوم برعاية الشاعر في آخر ايامه والتي جاءت مطابقة تماماً للمعلومات التي اثبتتها مدبرة المنزل ايضاً، دخلت غرف البيت التي كان التصوير فيه ممنوعاً ووجدتُ مقتنيات الشاعر كلها محفوظة وكأن الزمن جمدها لتبقى شاهداً على ديمومة الابداع، الأوراق الصفر المكتوب عليها بخط اليد، الجرائد، الصور الشخصية، أحذيته، ملابسه، سريره، ادوات الاستحمام التي نُقلت الى غرفته بعد اصابته بالمرض وعدم قدرته النزول الى الأسفل لاخذ حمامه اليومي، ادوات الأكل الخاصة به وعلى رفّ النافذة بقيّ فنجان قهوة والى جانبه كرسي هزاز كان ويتمان يجلس عليه ويراقب المارة.
اردف الرجل قائلاً:
لكونه الأبيض الوحيد في هذه المدينة وبلحيته البيضاء الطويلة كان الصغار ينادونه (سانتاكلوس)، أما سبب طول عمره كما يعتقد الشاعر نفسه فيعود الى الاستحمام اليومي ومزاولته رياضة المشي. كل هذه الأجواء ذكرتني ببيت الشاعر بدر شاكر السياب الذي سنحت لي فرصة زيارته في مهرجان السياب الشعري حيث كنت من المدعوين لهذا المهرجان في البصرة، دخلت مع الشعراء الى بيت شاسع الأطراف جدرانه طينية بلا سقف وليس به دلالة على انه كان مسكوناً من قبل، عمل الاتحاد ومنظمو المهرجان على توفير كراسي للجلوس ومنصة للقراءة الشعرية.
بعد الانتهاء من الاستماع للشعراء المشاركين ذهبت للسؤال عن (بويب ) و(شباك وفيقة) وجاءني الجواب على شكل اشارة الى حفرة في الأرض طُمرت من زمن بعيد وكانت تسمى بويب، أما شباك وفيقة فهو من نسج خيال الشاعر، هذا ما اخبرني به أحد اقاربه، ولكن قبل أيام سمعتُ بترميم هذا البيت الذي اتمنى ان أرى فيه مايدل على حياة هذا الشاعر وعبقريته.