سيرة عالم اللغات الدكتور جعفر هادي حسن

669

ورود الموسوي /

تميّز أهل العراق بأنّ الله منحهم فطنة وذكاء وعلماً، فصار العراقُ مذ قديم الزمان محط أنظار العالم وصار مهداً للحضارات بما قدمه للبشرية من إنجازات وعلماء ومفكرين أسهموا في سد ثغراتٍ كثيرة في العالم.
وصار التميّز العراقي سِمةً لكل من يتقدم في العلم والمعرفة والإبداع، فعُرف العراقيون في أوروبا وأميركا بتميزهم وجدّهم وسعيهم الدائم للتطور والابتكار في جميع الاختصاصات.
وما الدكتور جعفر هادي حسن (ت 1940) إلا واحداً من هؤلاء العلماء الأجلّاء الذين تركوا بصمةً في مجالهم، إذ لم تكن رحلته رحلةً يسيرة لما وصل إليه في مجال العلم والتدريس والبحث والتنقيب في مجال الدراسات اليهودية التي تخصص وعُرف بها، وهو تخصص نادرٌ آنذاك.
فالدكتور جعفر هادي حسن رحلة كفاح طويلة مع النجاح, بدأها مذ كان طالباً للبكالوريوس والماجستير في جامعة بغداد بقسم اللغة العربية، وكان يميل إلى مذهب الكسائي في النحو، وقد درّس ذلك في قسم اللغة العربية بكلية الآداب جامعة البصرة وتمخّض عن وجوده في البصرة أن وجد شريكة حياته وأفكاره فأعلن حبه وارتباطه بطالبته المميزة والتي أصبحت مربيّة واستاذة للغة العربية، السيدة (سميرة)، لينتقل عام 1972 إلى جامعة مانشستر في بريطانيا بعد قبوله فيها لإتمام الدكتوراه باللغة العبرية لا العربية، لكنّه لم يكن يدري بأن قبول الجامعة كان مشروطاً بحصوله أولاً على البكالوريوس والماجستير باللغة العبرية والدراسات اليهودية ومن ثم بإمكانه إكمال الدكتوراه، فكان ما كان ودرس سبع سنواتٍ ليتمّ ما بدأه فواجهته أثناء البحث والتنقيب مشكلة المصادر التي كان أغلبها باللغة الألمانية، لذا تعلم الألمانية أيضاً لتعينه على بحوثه حتى تكلل تعبه بالنجاح وحصل على البكالوريوس والماجستير والدكتوراه عام 1980.
في ذلك العام كان العالمان العربي والإسلامي يغليان بسبب نشوب الحرب العراقية الإيرانية ما جعله يتأنى بالعودة إلى العراق ولاسيما مع تكوين أسرته ومجيء ابنه البكر المهندس أثير وأخيه الدكتور نمير، فكان أن اتصل به صديقه الشيخ عبد الهادي الفضلي الذي درس معه في النجف وكان يرأس قسم اللغة العربية في جامعة الملك عبد العزيز في جدة بالمملكة العربية السعودية ليخبره بأن الجامعة تنوي فتح قسمٍ للدراسات اليهودية فحصل على تعاقد معهم وذهب مع عائلته الى جدة
حيث تم التعاقد أيضاً مع زوجته الحاصلة على ماجستير باللغة العربية من جامعة مانشستر للتدريس في قسم اللغة العربية في كلية الطالبات. لكنّ الأمور لم تمضِ كما أريد لها فمع خروج الشيخ الفضلي من الجامعة وتسلّم الدكتور عبد الله الغذامي رئاسة القسم بدأ الصراع واضحاً بين الغذامي الذي كان يستفز الدكتور جعفر دائماً، لأن الأخير كان لا يسكت ولا تأخذه في الحق لومة لائم. لذا قرر الاستقالة وترك السعودية والعودة الى لندن حيث حصل على عقد مع جامعة ميغل الكندية في فرعها بلندن لمدة أربع سنوات حصل خلالها على الإقامة الدائمة في بريطانيا ومن ثم جنسيتها.
استطاع دكتور جعفر أن ينجز الكثير في مدينة لندن، فكان مشغولاً بالإضافة إلى التدريس بتأسيس مركز ترجمة اللغة العربية الذي يُعد من أوائل مراكز الترجمة في لندن واستمر عشر سنوات بإدارته وتحت اشرافه، لكنه آثر الانصراف للكتابة فعكف على التأليف والبحث حتى عُرف بدقة معلومته العلمية والأكاديمية فيما يتعلق بالدراسات اليهودية، وكانت حصيلته العلمية خمسة كتب منشورة وهي:
“الدونمة بين اليهودية والإسلام، وتاريخ القرائيين اليهود، واليهود الحسيديم، وقضايا وشخصيات يهودية معاصرة، و فرق يهودية معاصرة”، والكتاب السادس الذي كان حريصاً على الانتهاء منه قبل رحيله هو”الحركة النسوية اليهودية”.
ضرب الدكتور جعفر هادي حسن المثل الأعلى في تربيته لأولاده الثلاثة المهندس أثير والدكتور نمير والأستاذ في اللغة العربية أمير فكان أباً لهم ولأصدقائهم ولكل من يقترب من عالمه, كان متعلّما رغم علمه الجم, متواضعاً ناكراً لنفسه زاهداً بكل المديح الذي يستحقه. وكان مثالاً أعلى لكل الصفات الحميدة في النفس البشرية. وكان قوياً مدفوعاً بالعلم فلم يستسلم للمرض أو ييأس منذ لحظة تشخيصه عام 2010 بإصابته بواحد من أخطر السرطانات (سرطان العظام)، لكنه لم يستسلم أبداً وظل يتغلب عليه بالعزيمة والإصرار والتأليف والكتابة فكان لكل من عرفه رجلاً نشطاً للغاية لم يشتكِ من المرض ولم يُظهر ذلك حتى لأقرب الناس له، وظلت زوجته البارة وصديقته الوفية وطالبته النجيبة المربية الفاضلة السيدة (سميرة أم أثير) بجانبه, وتقف خلفه في كل شيء لتمنحه الوقت والحياة المريحة والسعيدة ليؤلف ويكتب كما يشاء.
رحل الدكتور جعفر هادي حسن عن عالمنا الدنيوي في الثلاثين من شهر أيلول العام 2019 ليترك فراغاً كبيراً في مجال تخصصه إذ كان مرجعاً للعديد من الطلبة والمختصين.
فبهؤلاء العلماء عُرف العراقُ في الغرب وعرف الأوروبيين العراق والعراقيين من خلال إنجازاتهم وما تركوه من كتب وأثر خالدٍ في التاريخ البشري والإنساني وأنه لمن الوفاء الوقوف ولو للحظةٍ للمرور على سير هؤلاء العلماء لنتعلم منهم ومن كفاحهم في الحياة.