شخصيتنا الغريبة.. هلموا نقلب أوراقها!

16

محمد غازي الأخرس/
رحم الله أدباءنا ونقادنا وأكاديميينا الراحلين، ممن تأملوا في الشخصية العراقية التي حيرتهم بغرائبها وخصائصها. رحمهم الله لأنهم أورثونا الشغف بهذا النوع من التفكيك، وجعلونا نلهث لجمع ما تقع عليه أيدينا من كتابات في هذا المجال. وفي حاسبتي اليوم ملف ضخم يحتوي على عشرات النتف والتنصيصات مما كان يصادفني أثناء عملي على بحوثي، بما في ذلك تقليبي أرشيف الجرائد والمجلات القديمة في دار الكتب والوثائق.
تناقض العراقيين
تاريخياً، لعلكم ستفاجأون إذا ما علمتم أن الأمر يعود إلى بدايات القرن العشرين، وتحديداً إلى مجلة (لغة العرب) التي أصدرها الأب أنستاس ماري الكرملي، والتأم حوله فيها عدد من الشبان المتنورين، أمثال كاظم الدجيلي ويوسف غنيمة ورزوق عيسى وجميل صدقي الزهاوي وإبراهيم حلمي العمر وسواهم. الأخير، مثلاً، دأب على كتابة مقالات جد مبكرة عام 1912، تبحث في خصائص الشخصية العراقية كما لاحظها هو آنذاك. يشير في إحداها إلى تناقض العراقيين في سرعة تأثرهم بسواهم، من جانب، وشدة إصرارهم على التمسك بتقاليدهم وعاداتهم البالية، من جانب آخر. يقول إنهم “من أسرع الناس إلى التقليد وأكثرهم انهماكاً بكل شيء جديد، وأشدهم استمساكاً بعاداتهم وأخلاقهم.” كيف ذلك يا صاح؟ يجيب: “لأن المتأمل في أحوالهم وعاداتهم وحركاتهم وسكناتهم، واحتفالاتهم ومجتمعاتهم، سيكتشف أنها لا تختلف كثيراً عما كان عليها آباؤهم في سالف القرون، بل لتجدن أطوارهم وعاداتهم التي هم عليها الآن تنطبق تمام الانطباق على وصف الباحثين والأثريين والسيّاح لسكان هذه البلاد قبل مئات السنين.” مع هذا، فإنهم يسارعون لتقليد الأمم الأخرى بشكل ظاهري، مبقين على تمسكهم بعاداتهم “ضارة كانت أم نافعة، مخالفة لآداب الديانات أم موافقة لها.” (لغة العرب، ج 2، ص 170).
في مناسبة أخرى، يفصّل أكثر في هذا التناقض فيذكر أن “العراقيين تعودوا، وهذا ما تسبب في تأخرهم عن اللحاق بركب المدنية، على ألا يتشبثوا بمشروع، ولا يعقدون شركة، ولا ينشئون محلاً، أو غير ذلك، إلّا بعد أن يشاهدوا ثمراتها وفوائدها بأعينهم، ولو أدّى الأمر إلى قعودهم وتأخرهم عن مجاراة الأمم الراقية.” ومصداقاً لهذا يستذكر ما جرى مع شركة (بيت لنج) للنقل النهري، في الربع الأخير من القرن التاسع عشر، فقبل أن تعطيها الحكومة امتياز تسيير البواخر في الفرات، كانت قد عرضتها على أغنياء بغداد وتجارها، مع تساهل عظيم في الشروط بواسطة أحد الولاة، فلم يقبلوا وأحجموا عن استثمار ينابيع ثروة بلادهم، لكنهم لما رأوا ما جادت به على لنج من الريع الكثير والفوائد الجمّة، قاموا تلك القومة المشهورة وزعزعوا الإستانة باحتجاجاتهم على توحيد الإدارتين النهرية العثمانية والإنكليزية معارضين تسليمها الى لنج … ولكن بعد خراب البصرة. ص 303
ازدواجية المثقف
دعونا من حلمي، وتعالوا إلى واحد من أساطين الأكاديمية العراقية، الدكتور يوسف عز الدين، الذي كتب النقد والمقالة ودرّس في الجامعات منذ الخمسينيات، ويعد من جيل رائد. لدى الرجل (متبنيات) أصيلة عن الشخصية العراقية، إذ انتبه مبكراً لتناقضاتها، وكتب فقرات ممتعة لتفسير ما يتسم به أبناء النهرين الفوضويون من تطرف وازدواجية وتناقض بين هذا الموقف وضده. يقول: “أعجب لأبناء العراق وما فيهم من اضطراب روحي وحقد وبغضاء على أبناء جلدتهم وقسوة ضد الذين بعدوا عن السلطة، وأرى انخذالهم وضعفهم وخنوعهم ونفاقهم وتزلفهم لكل حاكم جديد. هل هو شعور الخوف من المجهول أم أنّه إحساس الخوف الكامن في اللاشعور من تجارب الماضي؟”
كتب صاحبنا (يوسف) عن ازدواجية المثقفين، ولاسيما الشعراء في كتابه (الشعر السياسي الحديث في العراق)، وفسّر ذلك بكونهم مثاليين، سريعي التأثّر والتصديق بما يصادفونه، حتى إذا اكتشفوا زيف السلطة انقلبوا ضدها بشكل متطرف: “وقد يعزى تقلب الشعراء بين المدح والذم الى التقلب الموجود لدى الشعراء في العراق وقلقهم وعدم استقرار المجتمع في العراق. إنهم أصحاب عاطفة وقّادة ومشاعر رقيقة تتأثر بسرعة بالحدث وتتجاوب معه بسرعة، ويحبون الشهرة ولهم أفكار مثالية وأحلام واسعة وخيال مجنح. ويتمنى الشاعر أن يرى كل أحلامه وغاياته حقيقة يتلمسها ويستفيد منها شعبه وأمته. ولكن سرعان ما يصطدم بالواقع المؤلم فيثور ويشتم ويلعن الأعداء.”
تقلبات الرصافي
الرأي ذاته لمّح إليه داود سلوم حين تناول تقلبات معروف الرصافي الذي مدح الإنكليز والسلطة الملكية، ثم انقلب لذمهم أشد الذم. وكان قبلها محسوباً على العثمانيين، وأصبح نائباً عن لواء المنتفك في البرلمان التركي. وبعد نهاية الحرب عام 1918 اتجه إلى سوريا حيث أقام فيصل الأول الحكومة العربية فيها، لكن رغائبه لم تجب هناك، ولم يحظ بوظيفة، فرحل إلى القدس لتدريس الأدب العربي في دار المعلمين، ومن هناك بدأ يهاجم خصومه في سوريا. داود سلوم يختصر هذه السيرة بالقول إن “الرصافي، مثل البقية الباقية من أبناء جيله، قد أحب الشهرة والمال والمناصب الراقية والاحترام والاعتراف به، ولاسيما في شبابه، لكنه لم يحصل على شيء من ذلك.” (تطور الفكرة والأسلوب في الأدب العراقي ص 92). بمعنى إنه أنموذج مثالي للشخصية العراقية المتقلبة، ولربما تصح عليها فرضية يوسف عز الدين من أنّها شخصية مثالية تصدّق أول الأمر بالمدعيات، ثم تصدم بزيف السلطة، فتنقلب عليها، وهي الفكرة ذاتها التي يؤمن بها علي الوردي ويفسر بها ازدواجية العراقيين.. كما سنرى في مقالة أخرى.