شكاوى الفلاحة الصينية الفصيحة

733

منير عتيبة /

اشتهر الفلاح الفصيح في الأدب الفرعوني بكتابته عدداً من الشكاوى رفعها للمسؤولين وعلى رأسهم الفرعون حاكم البلاد، يشرح فيها الظلم الواقع عليه من قبل الموظفين مسؤولي السلطة الحكومية، فأصبح صوت الشعب المعبّر عما يحيق به من إجحاف السلطة، وأصبحت شجاعته في الكتابة إلى رأس السلطة؛ الفرعون الإله، مضرباً للأمثال.
ومع ذلك فقصة هذا الفلاح الفصيح تنضح بالسخرية المُرّة، فالحاكم أعجب بأسلوب الشكاوى الأدبي، فأوعز إلى رجاله أن لا يحلَّوا له مشكلته حتى يظل الفلاح يكتب، ويظل الحاكم يقرأ ويستمتع بما يكتبه الفلاح من مظالم وما يعانيه الشعب من آلام، وفي النهاية لم يحل الحاكم ولا أي حاكم أي مشكلة للفلاح الفصيح ولا لسلالته من المظلومين، حتى أنّنا نردّد هذه الشكاوى وكأنّها كُتبت اليوم وليست أدباً قديماً أنتجته مرحلة تاريخية معينة.
كان الفلاح المصرى الفصيح وشكاواه الساخرة المريرة حاضراً بقوّة في قراءتي لرواية (طلاق على الطريقة الصينية) للكاتب الصيني ليو جين يون التي ترجمها إلى العربية أحمد السعيد ويحيى مختار، وتصدر عن منشورات المتوسط بإيطاليا عام2020م ، إذ شرفت بثقة الأستاذ أحمد السعيد عندما أعطاني مخطوط الترجمة لأطّلع عليه، وشفعه بكلمة: (هذه الرواية ستقلب رأيك في الأدب الصيني!).
لم (تقلب) هذه الرواية فكرتي عن الأدب الصيني أو ما قرأته منه حتى الآن، لكنّها عمقته، وأضافت إليه أبعاداً جديدة. ففيها؛ مثل غيرها من روايات، نرى ذلك التدرج الوظيفي للسلطة، وتأثيرها بكل مراحلها في حياة الناس تأثيراً قد يكون مدمراً في كثير من الأحيان، وهي كذلك كروايات كثيرة تعمل على كشف الفساد السلطوي والأخلاقي بوضعه مقابل المنطق الساذج للمواطن البسيط، المنطق القائم على الفطرة، الذي يكون كاشفاً لمنطق الفساد الملتوي، كما أن بالرواية قدراً كبيراً من التكرار الذي أراه منتشراً في ما قرأته من أعمال، وهو أحياناً تكرار موظف فنياً لكنّه في الغالب يمكن الاستغناء عنه أو تقليله. لكنها؛ وهذا ما يُميزها عن غيرها من الروايات، تضع ذلك كلّه على أرض من العبث، حيث لا يكون المنطق البسيط الواضح مقابل منطق السلطة الفاسد، بل يكون منطق بسيط فاسد مقابل منطق سلطوي أكثر فساداً، وذلك كله في إطار (كوميدي) وليس إطاراً من التهكمية المريرة التي اعتدتها في قراءاتي السابقة.
فمنطلق شكوى بطلة الرواية “لي شيوليان” ليس نبيلاً منذ البداية، هي تريد الانتقام لنفسها، لأن زوجها خدعها، بعد أن أوحت هي نفسها إليه بخداع الحكومة، والسبب أن قرارات الحكومة ظالمة أصلاً!
فالقانون يعاقب الأبوين اللذين ينجبان أكثر من طفل، و”لي شيوليان” وزوجها لديهما طفل بالفعل، لكنّها تحمل ذات ليلة لم يتخذا فيها الاحتياطات المناسبة لمنع الحمل، فتقترح على زوجها أن يتطلقا حتى تلد، فتكون المولودة باسمها هي، ثم يعودان للزواج مرة أخرى ولكل منهما طفل باسمه، فلا يكون الطفلان باسمهما معاً، لكن الزوج ينتهز فرصة الطلاق، ويتزوج من امرأة أخرى لديها طفل أيضاً، فتشعر “لي شيوليان” أنها خُدعت وأهينت، وتهب نفسها للرد على هذا الشعور المؤلم بالذهاب إلى المسؤولين بالتدرج الوظيفي بداية من أصغر قاض في بلدتها حتى حاكم المقاطعة، وهى تتحدث بمنطق بسيط: الطلاق بينها وبين زوجها كان زائفاً، وبالتالي فهو باطل، فهى تريد إثبات أنّهما ما يزالان زوجين، ثم بعد ذلك تتطلق منه طلاقاً حقيقياً لتتخلص من هذا الزوج المخادع!
فقضيتها ببساطة: أريد إثبات أن الزائف زائف فعلاً وليس حقيقياً.
لكن السلطة التي لا تتعامل مع النوايا بل مرجعها هو المستندات يكون لها رأي آخر: الطلاق حقيقي، فقد تم بطريقة رسمية، وبموافقة كل من الزوجين، وكل الأوراق تثبت ذلك، وعليه فالطلاق حقيقي!
ويكون الصراع الذي تقوم عليه الرواية أيهما يثبت وجهة نظره، “لي شيوليان” أم السلطة بكل مراحلها؟. هل الزائف زائف لأن النية كانت زائفة، أم أنه حقيقي لأن المستندات تؤكد وجوده؟ فمن الناحية الأخلاقية تبدو “لي شيوليان” على حق، ومن الناحية الإجرائية السلطة هي المحقّة.
تصبح قضية “لي شيوليان” مثل النملة التي أصبحت فيلاً، لأنّها كلما ذهبت إلى مسؤول يرفض قضيتها، ويهينها، فيزداد جرحها النفسي وشعورها بالخديعة والإهانة، فتذهب إلى المستوى الأعلى لتعرض قضيتها، ولتشكو زوجها والمسؤول معاً، حتى تصبح القضية ضد زوجها وكل مسؤولي المقاطعة، فتذهب إلى بكين لتعرض شكواها على مجلس النواب!
تهب “لي شيوليان” كل حياتها لهذه القضية، حتى تصبح أشهر امرأة في الصين، وتصبح رعباً كبيراً لكل مسؤولي المقاطعة لا سيما حين يأزف موعد اجتماع مجلس النواب، إذ تسبّبت قضيتها في إقالة عدد من المسؤولين ذات مرة، وهي إقالة بطريق الخطأ لكنّها تمت، وهو خطأ سوء فهم من المسؤول الكبير، لكنّه يتوافق مع منطق الرواية القائم كله على أخطاء سوء الفهم، والحوار العابث في جوهره، الذي يبدو عقلانياً في الظاهر، فتتولّد عنه ضحكات لا يمنع القارئ نفسه عن سماع صوتها أثناء القراءة.
لم يتغيّر شيء في طريقة تفكير المسؤولين، ولا آليات عمل السلطة، أنفقت “لي شيوليان” عمرها عبثاً، ولم يستطع أحد التأكد من أن الزائف هو فعلاً زائف أم هو حقيقي، وما الفارق بين المزيف والحقيقي؟ فالمعيار السائد في المجتمع ليس أي منطق سوى منطق قوة السلطة وقدرتها على تنفيذ أهدافها سواء باستخدام العنف أم الخداع، وهو ما يجعل الشعب ممثلاً في طليق “لي شيوليان” وفي حبيبها السابق، اللذين يستغلان الوضع القائم لمصلحتهما على حساب البطلة، إذ يتفقان مع السلطة ضدها.
ولا يكتفي الكاتب بالسخرية من تدهور المعايير الأخلاقية في مجتمعه، التي كانت السلطة هي السبب الرئيس في انحدارها، بل يسخر منها في شكل الرواية نفسه، فالرواية التي تزيد على 300 صفحة تنقسم إلى ثلاثة فصول، هي: الفصل الأول: مقدمة/ ذاك العام – الفصل الثاني: تمهيد/بعد عشرين عاماً – الفصل الثالث: المتن/ لِلَّهْو فقط.
والفصل الثالث الذي هو (المتن) لا يأخذ من مساحة الرواية سوى أقل من عشرين صفحة، ويكون هامشاً على موضوعها الأساس، وكأنّ شكل العمل نفسه يسخر من فكرة المركزية، ويطرح سؤالاً أخلاقياً هو جوهر سؤال الرواية عن الحقيقي والزائف، المتن والهامش، وما المعايير التي تحدد ذلك؟