صحفي عراقي يدوّن الجحيم (سوء حظ).. شهادة حية عن المأساة
كاظم غيلان
(سوء حظ)، إصدار للمثقف والصحفي العراقي المخضرم (سهيل سامي نادر)، صدر عن دار المدى بواقع (270) صفحة من القطع المتوسط. إنها ليست سيرة محشوة بالمبالغات، ولا هي بمذكرات سياسي يغلفها النفاق وتراشق الاتهامات، بقدر ما كانت وقائع مأساوية غلفت حياة (صحفي في زمن الانقلابات)، كما أورد في غلافها، ولقد ارتأى أن تكون (ذكريات).
كيف لا يكون صحفياً مخلصاً لذاته، وباحثاً عن استقلالية رأيه (سيئ الحظ) وسط أجواء انقلابية بدأت من انقلاب 8 شباط 1963 الدموي، كما أشار في مقدمتها؟
كيف لا يكون (سيئ الحظ) هذا الذي ينجو من الموت بقدرة سحرية، حتى بعد سقوط نظام دكتاتوري أمعن في تعذيبه، على يد عصابة منفلتة، ولم يجد الخلاص إلا في اللحاق ببعض أفراد أسرته ويستقر معهم في المنفى الدنماركي؟
انه – سيئ حظ – بامتياز، أعلنت عنه صفحات مذكراته المريرة، مؤامرات، سخرية، نفاق مهني، دجل سياسي، مجابهات صريحة، جميعها تبدأ بجدّيته ومهنيته التي عرف وعرفناه خلالها لتنتهي بـ (سوء حظه).
تجربة سهيل سامي نادر الحياتية بعمومها، والمهنية كصحفي بخصوصيتها، هي دون أدنى شك تجربة أي مواطن عراقي عاش مجريات عصره، لكن خصوصيتها استقرت في وضوحها من جهة ضمير صحفي مثقل بالمتاعب بسبب مهنيته، ومثقف بفكر تقدمي إنساني عاش في قلب أحداث دامية تسببت بها حكومات عسكرتارية عدوة لكل قيم الإنسانية التي انتمى ونادى بها سهيل منذ نعومة أظفاره، بحكم بيئته الأولى ومحيطه الأسري، إذا ما علمنا بأن والده عضو قيادة الحزب الشيوعي العراقي، مع أن سهيلاً ظلت الشيوعية بالنسبة له (تهمة) تلاحقه أيّان حل وارتحل في جغرافية العراق وصحافته، ولربما يؤيدني كل من عرف استقلالية رأيه وحياديته المهنية.
الصحفي العراقي مغلوب على أمره، شاء أم أبى، بحكم أحادية الخطاب الصحفي الذي فرضته سلطة الحزب الواحد من خلال مؤسساتها الثقافية والإعلامية، برغم ما رفعت من شعارات مزيفة على شاكلة (اكتبوا بدون خوف وتردد)!!
فالعكس هو الصحيح تماما، إذ عاش الصحفي العراقي وسط أجواء الرعب والوشايات وحرب التقارير التي تؤدي إلى التهلكة، أو البطالة كأدنى حدود (الرحمة).
تبدأ فصول ذكريات سهيل بـ (خلفيات: تأميم الصحافة.. إلغاء الحرية) ص 9 لتنتهي بـ (خروج) ص245.
في تدوين مشوق بسردية عالية، سجل سهيل مجربات مخاضات تجارب، أو لنقل وقائع، عاشها في العديد من محاور عمله بعتبات (عتبة جريدة الثورة القومية، عتبة الثورة أيضاً لصاحبها حزب البعث، عتبة مجلتي والمزمار، عتبة جريدة الجمهورية، عتبة ألف باء. لتنتهي بعتبة المدى)، ولكل عتبة من هذه ما ينتهي بـ: سوء حظ.
عاصر سهيل أهم وأبرز موجة صاخبة شهدها العراق، ألا وهي التي أينعت في حقبة ستينيات القرن الماضي بعموم آداب وفنون العراق، ولم تكن الصحافة بمنأى عنها، إن لم أقل إنها كانت صاخبة في قلب أحداثها وما شهدته من تحولات وانعطافات حادة، بكل ما تعنيه الحدة سياسياً، ببزوغ اليسار واندفاعاته، والثقافة بنتاج الحداثة وبشائرها الأولى، ولاسيما الشعر. كل ذلك كان للصحافة دورها في نقده وتعزيزه، ولربما إتاحته فسحة استرخاء الانقلابيين حين شغلتهم مؤامراتهم وماراثونات السباق لـ (البيان رقم واحد).
ما بعد العتبات تأتي (الدكات) في بنية ذكريات سهيل كـ (دكة عمل إضافي: مجلة الإذاعة والتلفزيون، دكات صعود ونزول)، فضلاً عن تجارب لربما وجدها خارج نسقه المهني، إلا أنها حظوظ سيئة سجلت وقائعها ضمن نسقه الحياتي، كـ (طائر غريب في المؤسسة العامة للطيران المدني، السفر إلى الكويت بحثاً عن عمل، سنوات (عتعتة) باتجاه الحرب والفوضى، زمن الاحتلال).
حريّ بالأجيال الجديدة في عالم الصحافة التعرف عن قرب على ما جرى لمهنة البحث عن المتاعب من قمع وتهميش مورسا مع واحد من أبرز الذين نالوا قدراً كبيراً من سوء حظ، راهن على مهنيته واستقلالية رأيه في قراءة هذه الذكريات المشبعة بالصدق والنقاء، وكم كلفت صاحبها من متاعب الحياة والمهنة.