صور الجدران في غرف الاستقبال
خضير فليح الزيدي/
عندما يخرج “رب المنزل” لجلب مستلزمات واجب الضيافة التقليدية، وغالبا ما يكون الشاي أو علبة عصير أو يكتفي أحيانا بالماء، يتاح للضيف الوافد تأمل الصور على الجدران. في تلك اللحظات يتنزّه الضيف في قراءة ثقافة الجدران وتشكيل الانطباع في قراءة نوع وشكل خلفية صاحب الدار المقصود.
السيف والبندقية
للسيف المعلق بصورته المائلة وبغمده الجلدي أو المفضض دلالته القبلية إشهاراً واضحاً لقوتها، كما هي البندقية القديمة ذات الفوهة الصدئة دلالة القوة والارتباط القبلي، أو موقد أباريق القهوة الذهبية إشهارا قبلياً. فيما تكون صورة الإمام الورقية والأسد الرابض أمامه دلالة الإيمان الديني وتمظهراً بائناً للتدين والانحياز إلى الإيمان. كما تكون صورة “ابنة المعيدي” ذات العينين الموحيتين هي الأكثر ميلاً نحو التشبث بخيط الماضي وتراثه الثر.
لم نجد صورة لماركس بشعره ولحيته الكثّة على جدران رب المنزل اليساري، بينما وجدنا في البحث الصوري صورة وحيدة لمؤسس الحزب “فهد” مرسومة بالزيت ومعلقة في الزاوية القصية، يمكن رفعها في لحظة الخطر الداهم أثناء المداهمة!
للجدران ثقافة رب المنزل وطيفه وإيمانه، غالباً ما تكون غرفة الاستقبال “ملبوخة ومبيّضة” بالجص الأبيض ثم الطلاء باللون التقليدي للعائلة العراقية وهو البيج بدرجاته المتعددة المائلة للبياض بإزارة بُنية غامقة لامتصاص الرطوبة. هل ثمة حياد لوني في ثقافة أرباب المنازل؟ أم هو قصور في تجاوز النمط والسياق؟ طبعا هو ميل واضح في الانتظام ضمن السياق التقليدي العام وهو بمثابة المحافظة والإيمان الجمعي بتفاصيله..
في كثير من الأحيان تكون زيارة الضيف التقليدية لعيادة مريض أو اقتراض مبلغ ما أو “تعلولة” في قضاء الوقت الطويل الذي يعاني منه الضيف، والغريب أن الضيف غالباً ما يعاني من فراغ هائل يقضيه في زيارات من يخطر في باله.
أحد عناصر التباهي
غرف الاستقبال العراقية طويلة نسبياً، وهي واحدة من عناصر التباهي الكثيرة، تشبه الاستوديو لكنها تغيرت كثيراً بعد التحديث المعماري لعمارة البيت العراقي في الثمانينات. انفتحت غرفة الاستقبال على غرفة أخرى تدعى المطعم يفصلها باب عريض من خشب الصاج المزخرف، فيها مائدة طويلة ومجموعة كراسٍ لتقديم وجبات الطعام. ذلك التفصيل مخصص للطبقة الوسطى وموظفي الدولة، غرفة صغيرة تنفتح على كلدور أو هول يؤمّن طريقها إلى المطبخ، رغم أن بعض ارباب المنازل أبقى على العمارة القديمة في عزل غرفة الاستقبال عن الأسرة لمنع فضح أسرار البيت في تداخل أصوات النساء من الداخل الذي يشكل معضلة كبرى وفق الظن. ثمة فظاظة واضحة لدى الأسرة العراقية وميل للعزل الجنسي داخل البيت وتلك من ترسبات تراثية قبلية ودينية، لذلك تأخذ عمارة البيت الداخلية شكلها من تلك الثقافة العازلة لكلا الجنسين.
في العودة إلى غرفة الاستقبال وصور الجدران المعلقة فيها، نراها تتبع عموما نسق منظومة ثقافية أو دينية غيبوية، وفق نسق تاريخي يأخذ على عاتقه تحديث نظام المعلقات على الجدران الثلاثة باستثناء الجدار الرابع الذي تدخل فتحة الباب الخشبي في تصميمه.
آية الكرسي
إن كان رب المنزل غاطساً في خاصية الإيمان الديني الشديد فيجلس الضيف على الأرض بعيدا عن الكرويتات والطواقم التقليدية التي تشغل حيزاً حاداً من فضاء غرفة الاستقبال للتبرك في القرب من الأرض. وإن كان رب المنزل يسارياً موالياً للفكر التطلعي فنجد بالإضافة إلى طاقم الكرويتات الحمر – غالباً – ثمة لوحة باهتة الألوان تحاول التعبير عن ذوق فني لرب المنزل وهي عبارة عن لوحة تراثية تعكس الشناشيل أو الأقواس التي يظن أنها من التراث العباسي، ومسجّل ستريو نوع “رازينك” يقبع في الزاوية، أو أحياناً ثمة لوحة لأهوار الجنوب أو جبلية تجارية بألوان صارخة.
آية الكرسي تشكل قاسماً مشتركاً في المنازل ولفترة طويلة تمتد لثلاثين عاما أو أكثر. في زمن الحقية البعثية الصارمة كان الخوف الدائم من فوبيا زيارات مفاجئة لمسؤول البلوك أو المنطقة فكانت صورة الرئيس بيشماغه الأحمر وسيجاره الكوبي وابنته الصغيرة في حضنه، تؤطرها ثمة زهور صناعية تافهة تتقاسم الجدران.
يضع المتدين التقليدي صورة الأئمة الاثني عشر في تشكيلة نصف قوس يتوسطهم الإمام علي(ع)، ثمة شعاع أبيض على كل معصوم منهم والصورة التقليدية هذه بخلفية خضراء داكنة ويخط أسماء الائمة بخط الثلث تحت كل واحد منهم. هذه الصورة ذات المنشأ الإيراني بنسخ كثيرة هي من مخيال التصور الغيبي لرسام احترف تجميلهم بصورة فنية ودرامية. الصورة طبعاً ترفع عند اشتداد حملات تفتيش و”كبسات الأمن” في الفترات المتعاقبة إثر كل موجة عاصفة من النظام الدكتاتوري.
غرفة الاستقبال العراقية لا تعترف بالفضاء الايحائي إلا بدلالات الهوية الفاصحة عن سريرة رب المنزل سواء بالصور أو الأثاث التقليدي. حتى السجاجيد الصغيرة المعلقة في غرف ضيوف الفنانين فهي اشهار هوية واضحة المعنى.
الجدار الأملس الصقيل والخالي من الصور ظهر كابتكار لمغازلة صامتة للسلطة إبان اشتداد الحرب الإيرانية العراقية في ثمانينات القرن العشرين، وأصبحت بديلة عنه خراطيش المدفعية عيار 155 ملم عند عتبات غرف الاستقبال.