ضياء جبيلي: وجدت في السرد ما عجز الشعر عن تلبيته

54

حوار/ علي السومري

شاعر وقاص وروائي، كانت صرخته الأولى في سبعينيات القرن المنصرم، في البصرة، حيث ولد في مدينة الحرب والحب والإبداع، الأرض التي منحته دفأها وقسوتها، تاريخها وغرائبيتها. إنه ضياء جبيلي، الكاتب الذي يعتقد أن المحلية هي أساس الكتابة السردية، وأن بلاداً مثل بلاده لابد أن تذكره بـ (زوربا اليوناني).

أصدر روايات ومجاميع قصصية عدة، من بينها (لا طواحين في البصرة)، و(ماذا نفعل بدون كالفينو)، و(لعنة ماركيز)، و(وجه فنسنت القبيح)، و(حديقة الأرامل)، و(تذكار الجنرال مود)، و(النمر الذي يدعي أنه بورخس). حصل على العديد من الجوائز، مثل جائزة الطيب صالح، وجائزة مجلة دبي، وجائزة ملتقى القصة القصيرة، متوجاً هذه الجوائز بفوزه مؤخراً بجائزة (كتارا) للرواية العربية في دورتها العاشرة عن روايته (السرد الدري في ما لم يروه الطبري- ثورة الزنج) فئة الرواية التاريخية غير المنشورة.
وللاحتفاء به وبمنجزه السردي، وتسليط الضوء على مشروعه الإبداعي، أجرينا معه هذا الحوار، الذي ابتدأناه بسؤال:
* لماذا اخترت السرد دون بقية الفنون الإبداعية، هل هي محاولة لتوثيق ما يجب توثيقه؟
– لا أعرف إن كنت أنا من اختار السرد أم أن السرد اختارني. كنت أكتب الشعر في البداية، متدرجاً فيه، بدءاً من الشعر العمودي، مروراً بقصيدة التفعيلة، وانتهاء بقصيدة النثر. عندما وصلت إلى هذه الأخيرة، لاحظ بعض الأصدقاء، ومنهم صديقنا الشاعر عبد الرزاق الربيعي، إمكانية أن يكون الأمر أكثر جدوى مع كتابة القصة، خصوصاً أن بناء الجملة الشعرية لديّ يتمازج بالسرد على نحوٍ واضح. عندئذ، بدأت بتجربة جديدة هي كتابة القصص القصيرة جداً، وحينما راق لي الأمر ووجدت في السرد ما عجز الشعر عن تلبيته، واصلت التجربة وانتقلت بعدها إلى كتابة الرواية. مع ملاحظة أني لم أهجر الشعر، ولم أزل أتعاطى معه بالنشوة نفسها التي كانت في البدايات. أما بشأن الشق الثاني من السؤال، فالمسألة ليست مسألة توثيق فحسب، إنما الاشتغال على الوثيقة بوصفها مادة خام ونقطة انطلاق، وتقديمها بشكل فن، مع الإشارة إلى فكرة معينة أو تاريخ أو شخصية.
* دائماً ما يصفكم النقاد بأنكم جيل الرواية الجديدة – أعني جيل ما بعد 2003 – ما الذي يميز هذا الجيل عن الأجيال السابقة؟
– أنا أفهم أن الرواية الجديدة هي تلك التي تأتي بمفاهيم وتقنيات وأفكار تجريبية، لهذا، لا أظن أن هناك رواية بهذا المعنى في العراق، باستثناء بعض التجارب، وهي تجارب مرتبكة قامت على خطوات غير محسوبة ولا تحترم فكر القارئ، بل وتتعالى عليه. بالنسبة لي، أرى أن الجِدّة كانت في اللغة والطرح والجرأة في تناول الأفكار، وهي أبرز ما يميز هذا الجيل، في حين تبقى أكثر الأعمال ذات بناء وتقنية لا يميزانها عن بقية الروايات العربية.
* في الوقت الذي نرى فيه العديد من الكتّاب يحاولون ولوج العوالم الغربية وحيواتها وإدخالها في السرد العراقي، نجدك مهموماً بتحويل المحلي إلى عالمي، ما تفسيرك؟
– أنا أعتقد أن المحلية هي أساس الكتابة السردية، وهي بمثابة بطاقة تعريف بالمكان والشخصية المحلية نقدمها للعالم. حتى في الأعمال التي استدعيت فيها ثيمات وشخصيات وأحداثاً عالمية، لا تنفصل هذه العناصر الغريبة عن الواقع المحلي، إنما تشتبك معه في عدد من المشتركات. على سبيل المثال، بلد فيه أعلى نسبة من الأرامل، بسبب الحروب والنزاعات، لا بدّ أن يذكرك بزوربا اليوناني، عاشق الأرامل، ويجبرك على استدعائه وزجّه بواقعنا المفرط في الغرائبية!
* في البصرة، هذه المدينة التاريخية، آلاف القصص والأساطير، كيف أسهمت هذه المدينة بصقل مخيلة الروائي
فيك؟.
– لا شك أنها أسهمت إلى حد كبير، مثلها مثل المدن الساحلية، تؤثر في تكوين القريب والبعيد. فأنت عندما تجد نفسك في مدينة تتنوع موسيقاها، وتختلف لهاجتها الكثيرة، وتتعدد تضاريسها بين صحراء وعشب وبحر، ويتغير طقسها بين دقيقة وأخرى، لا بد أن يترك كل ذلك فيك أثراً ملحوظاً. البصرة مدينة عجيبة، يمكن أن تحبها وتكرهها في الآن نفسه، تحرّضك على الرحيل، وما إن تضع قدماً خارج حدودها حتى تمسك بك مثل أم تشق عليها مفارقة ابنها.
* لنتحدث عن النقد، دائماً ما نسمع ونقرأ أن ثمة تقصيراً واضحاً في النقد، وهو ما أسهم بإنتاج مئات الروايات في العراق ممن يقال عنها إنها أبعد ما تكون عن الرواية وبنائها السردي، ما رأيك؟
– حتى لو كان هناك نقد على نطاق واسع، هذا النوع من الروايات موجود ويمكن العثور عليه في كل مكان وزمان، شئنا ذلك أم أبينا. بالنسبة لي، أعدّه حالة صحية ما دامت الساحة مفتوحة والحرية متوفرة، وللفرد الحرية في الكتابة. ومن متطلبات المنافسة أن يكون هناك الغثّ والسمين وما هو بين هذا وذاك. في النهاية، يمكن للقدرة على المطاولة من عدمها أن تخط الحدود لكل كاتب، مع الالتفات إلى أنّ ليس كل من يشاركون في الماراثون يصلون خط النهاية.
* هل أسهمت مواقع التواصل الاجتماعي في انتشار الكتاب العراقي بعد عزلة طويلة زمن الديكتاتورية؟
– نعم، أعتقد أن مواقع التواصل الاجتماعي أصبحت أشبه بمحطة للترويج الذاتي، يستطيع من خلالها الكاتب أن يعلن نتاجه ضمن مساحة واسعة يتواجد فيها القرّاء، بعد أن كان هذا الأمر مقتصراً على دور النشر المطلوب منها الترويج لكتب مؤلفيها. وعلى الرغم من ذلك، قلّما استخدم هذه الميزة في السنوات الأخيرة، لأن إدارة الحسابات على هذه المواقع تحتاج إلى تخصيص وقت ليس بالقصير أفضّل شغله بالكتابة والمطالعة.
* بعد ترجمة عشرات الروايات العراقية إلى اللغات الأجنبية، وفوز العديد منها بجوائز مرموقة، هل يمكننا الادعاء بأن روايتنا أصبحت عالمية؟
– أفهم العالمية على أنها انتشار كتاب ما ضمن شريحة كبيرة من قرّاء غير العربية، عبر ترجمته إلى لغات عديدة، وليس كلّ ما تُرجم أو حاز على جائزة هو معروف عالمياً بالضرورة. نعم، هناك عدد من روايات أصدقائنا الرواة أخذت مكاناً لا يقل بريقاً عن كثير من الروايات العالمية، مثل رواية (فرانكشتاين في بغداد) لأحمد سعداوي. لكن في الوقت نفسه، هناك كتب تُرجمت ونُسيت وغطاها الغبار، وبالكاد وجدت من يقرؤها. بالنسبة لي، وعلى الرغم من أنه طموح مشروع لكل كاتب، لكن لا يشغلني كثيراً هذه الأيام. أحاول فقط التركيز على ما هو آت. ومن يعلم، ربما يحالفه الحظ ويجد طريقه إلى العالمية!
* ما الذي تمنحه الجوائز للكاتب وكتابه؟
– تكمن أهمية الجوائز في كونها حافزاً مادياً ومعنوياً. أغلب كتّاب الرواية عندنا إما موظفون أو عاطلون عن العمل، ولا يحصلون على عوائد مالية من نشر كتبهم، بل على العكس، هناك من يدفع لدور النشر في سبيل طباعة رواياتهم. لذا، توفر القيمة المادية للجوائز نوعاً من الاستقرار للكاتب، أو فسحة يتنفس من خلالها ويتخلص من عبء العمل واحتياجات الحياة. أما القيمة المعنوية، فيمكن ملاحظتها من خلال الانتشار الذي توفره الجوائز، خصوصاً الكبيرة منها.
* ما جديد ضياء جبيلي؟
– رواية تاريخية ومعاصرة في الوقت نفسه، يخوض بطلها رحلة شاقة وطويلة تمتد لآلاف السنوات، بدءاً من نهاية العهد السومري وبداية الأكديين إلى أيامنا هذه، وتحديداً 2017. عنوان الرواية (الرائي – رحلة دامو السومري) اعتبرها خلاصة لجهد سنوات من القراءة والكتابة والانتظار. وقد يكون العمل الأهم والأحب إليّ، حتى هذه اللحظة على الأقل.