(عن الشاعر الكبير مظفر النواب أكتب).. فـــــي رحـــــــــــاب المعلـِّـــــــــم..

347

أحمد خلف/

ماذا يعني أن يكون معلمك شاعراً معروفاً، وهو في بداية حيازته على الشهرة، ولا يملك زملاؤك في المدرسة إلا التعلق به، لأن حضوره القوي يفرض عليهم ذلك. كانت فيه ميزات نادرة، ولاسيما أنه في مطلع شبابه، ولعل التأمل شيمته للتفرس في وجوه التلاميذ، نظر إلينا واحداً بعد الآخر مع طيف ابتسامة أشبه بالظل، أحببناه وانسجمنا مع إرشاداته، وما يقوله لنا اعتبرناه أوامر مقدسة. بعدما تأمل الوجوه الشاحبة بسبب الفقر وسوء التغذية، قال بصوت ونبرة رخيمين: “اكتبوا موضوع الإنشاء كما تشاؤون.” ثم عقب على كلامه : “كل واحد منكم يختار موضوعه بحرية تامة.”
يتذكر الطلبة أن هذه هي المرة الأولى التي يترك فيها المعلم طلبته يختارون موضوعة الإنشاء بحريتهم. لم يجرب الطلبة الصغار تلك الحرية في الاختيار مع أي معلم من قبل إلا مع صاحب (للريل وحمد). إنه مظفر النواب، الذي أفتخر بأني كنت وفياً له، وهو الذي يستحق أن نذكره بخير دائماً، لقد تلقف العديد من المواهب في المدرسة، وشكل منها نواة للعمل، كان شاغله أن ينقذ من لديه إمكانية في الفن أو الأدب، وقد وضع اليد على أحد الطلبة، الذين فاجأ الأستاذ بأنه قد كتب قصة قصيرة، دون أن يعرف أنه قد أبدع نصاً بدلاً عن موضوعة الإنشاء.
لم تمض سوى أيام قليلة حتى أخذ الطلبة يتعرفون على أستاذهم الذي كان يكلمهم عن أسماء شعراء وأدباء وفنانين لم يسمعوا بهم من قبل، حدثهم عن البياتي والسياب ونازك الملائكة، وعن آخرين يسمعون بهم للمرة الأولى، كما تكلم عن الروايات والقصص العجيبة والغريبة التي تتحدث عن أبطال خارقين في أعمالهم، كلمهم عن طه حسين ونجيب محفوظ والتكرلي وعبد الملك نوري. كان الطلبة يمتلئون بالقصص والحكايات الجميلة والأشعار التي أثارت عجبهم، وحركت المزيد من مخيلتهم، حتى فاجأنا أحد الطلبة وهو يسأل الأستاذ قائلاً: “أستاذ أنت الشاعر الذي كتب (للريل وحمد)”، ساعتها ابتسم الأستاذ ابتسامته المعهودة وحرك رأسه للطالب أن “نعم”، ثم أشار عليه أن “اجلس”. كان الأستاذ يقرأ للطلبة في كتاب قصة مغنٍّ عالمي اسمه (كروزو)، ولا يعتقد أن الطلبة قد استوعبوا كل ماقرأه لهم من قصة ذلك المغني الإيطالي، لكن كان الهدف واضحاً، إنه يريد لهم أن يتعلموا كل شيء نافع ومفيد، أما الآن فيمكن القول إنه كان يهدف إلى أن تتسع مداركهم، وألا يستمروا في حدود الدرس الذي اعتادوا عليه في المنهج المدرسي فقط. كان الهدف واضحاً في ذهن الأستاذ، هو أن يخلق جيلاً متعلماً ورفيقاً للحرية، وتحديداً حرية التعبير عن مكنون النفس.
كان يخاطبنا بنبرته النبيلة المليئة بالعناية بنا، وكذلك العطف الخلاق، يقول: “اكتبوا كل ما يخطر على بالكم وتجدونه مفيداً.”
ــــ كيف يمكن لنا أن نميز بين المفيد وغير المفيد؟
يقول بثقة تامة : “أنا معكم ولن أتخلى عنكم، وسوف اقرأ كل ما تجود به قريحتكم، لكي نميز بين المفيد النافع وبين مغايره.”
مضى عام على وجوده الثمين بيننا، وبدأ عام جديد تلقفناه بفرح غامر أننا سنلتقي بمعلمنا الذي أخذنا في رحلة عجيبة كأنها الحلم العابر لكل الهموم، لكن ذلك العام ما إن جاء حتى جاءت معه عاصفة سوداء، لم تبق وراءها من زرع ولا ضرع، عاصفة مليئة بالغبار الأسود الذي غطى الكون من حولنا، وفوجئنا بضياع معلمنا في عاصفة الشر التي دمرت كل شيء، حتى الأحلام، ولم نكتب بعدها أي شيء يذكر، فقد ضاع منا النافع والجميل وغيرهما، كما افتقدنا البوصلة والأحلام، كل ذلك بضياع المعلم الذي أطلقنا عليه :
ـــ صاحب (للريل وحمد) ..