غائب طعمة فرمان المثال التراجيدي لمحنة المغتربين العراقيين
كاظم حسوني/
لعل الظلم الذي لحق بالروائي العراقي الكبير الراحل غائب طعمة فرمان، لم يقع على أديب آخر مثله، برغم ضروب الأذى والمحن التي تعرض لها المثقف العراقي لأزمان طويلة من لدن حكومات متخلفة تضطهد أدباءها ومبدعيها لكن، غائب يبقى المثال الأكثر تراجيدياً من بين المغتربين العراقيين.
إذ أمضى أكثر من أربعين عاماً مبعدا عن وطنه في المنفى ومات في صقيعه، وكان يحلم بالعودة الى الوطن، لكن حياته أضحت سفراً بلا نهاية، وما يزيد من مأساة غائب كونه (محاصراً حتى في منفاه، فلم يكف حكومات الاستبداد في العراق أنها اسقطت عنه الجنسية وهو في منفاه، وقطعت عنه راتب التقاعد (مائة دينار) بل عمدت الى منعه من التحرك والسفر كما يريد ومتى يشاء، وليس فقط الى وطنه انما حتى في التنقل بين بلد عربي وآخر، وظل جواز السفر نقمة عليه ويثير دائماً قلقه ومخاوفه، خشية انتهاء صلاحية مدته، أو هل ستمدده السفارة أم لا، وهل يغامر بالذهاب الى السفارة؟ وفي أحسن الأحوال كان حل مشكلة الجواز وقتياً، وازاء ذلك كان على الدوام محكوماً بالانتظار وهو في المنفى، فالوطن ممنوع، والبلدان العربية ممنوعة، وبهذا الشأن كتب في احدى رسائله الى عبد الرحمن منيف يصف حالته (حلت مسألة الجواز، فقد جدد لمدة سنة، وسأكون مطمئناً من هذه الناحية خلال هذه السنة، والجواز مجرد وثيقة تثبت بأني عراقي، وما أزال على قيد الحياة).
لايبيع الكلمة لسلطان
قال صديقه الكاتب سعيد حورانية: لم يحمل مغترب وطنه كهم يومي، وحنين دائم، كما حمل غائب وطنه العراق، وأنه لمن المدهش أن يكتب غائب جميع رواياته بدءاً من (النخلة والجيران) وانتهاءً برواتيه (المركب) باستثناء (المرتجى والمؤجل) عن مدينته بغداد، كأنه لا يزال يعيش بشوارعها وأزقتها ومحلاتها القديمة، ويتنفس هواءها، وهو في منفاه الروسي البعيد منذ عقود، ومن يقرأ رواياته لم يتصور أو يصدق أن غائب، قد غادر محلته الشعبية وعاش بعيداً عن وطنه..إذ دأب في مجمل كتاباته استحضار بغداد متوغلاً في أزقتها ومناطقها الشعبية، بوجوه شخصياتها من العمال والكسبة والباعة معبراً عن همومهم وأحلامهم الصغيرة وبؤسهم أصدق تعبير، موليا إياهم كل عنايته وإبداعه وظل الى النهاية وفياً مخلصاً لاناسه المتعبين والمظلومين والكادحين، يعكس في أدبه ورواياته قصصهم وأحزانهم وحيواتهم البسيطة المرحة الحزينة ناسجاً ملامحهم الشعبية وحكاياتهم بالنكهة المحلية لمحلات بغداد في الاربعينات والخمسينات مثل (محلة المربعة) و(سلطان علي) وسواها من المناطق، من منا لا يتذكر سليمة الخبازة، أو عليوي سائق العربة، وحسين مصلح الدراجات، أو مظلومة، ونوري، والسيد معروف، وشخصيات أخرى مازالت تعيش في ذاكرتنا بملامحها وعذاباتها، هذه الشخصيات وغيرها التي كانت تمثل له الوطن وبغداد التي عاش بها ومن أجلها ووهب نفسه كلياً لها، ولطالما ظل يحلم وهو في منفاه بالعودة إليها ليتكلم باللهجة العراقية، وأن يأكل في مطاعمها الشعبية، وأن يتجول في شوارعها ومحلاتها، ويرى محلته القديمة المربعة وما تبقى منها، كما جاء في بعض رسائله غائب مثل أبطال رواياته ظل يأمل أن تتغير الأوضاع سنة بعد سنة متحملاً المزيد من الاحتراق والغربة والشقاء لكنه دائماً كان يجد عزاءه في قلمه، وفي مقابلة معه عبر عن ذلك (أنا في الغربة يعجبني أن أكتب عن بغداد، وأجواء بغداد، ربما يكون ذلك سلاحاً ضد الذوبان والضياع، نوعاً من الدفاع عن النفس والمغامرة والاتصال الروحي بالوطن). الوطن الذي كلما أوغل في البعد عنه ازداد تعلقاً به وتأتي كتاباته في الغربة تواصلاً ملهوفاً له، متكئاً على ذاكرة حية تنبض بقوة تفيض بالحنين لبغداد التي غادرها مرغماً (الى أرض غريبة لكي لا يبيع الكلمة لسلطان وحشي أحمق)، لذا يغدو الوجه الآخر لابداعاته بوصفها استمراراً وتعويضاً عن خسارات الغربة وشقائها، الم الحنين لمدينته للنقاء الشعبي والعفوية، والبساطة، والقيم الطيبة التي مجدها في مسار كتاباته، للباعة المتجولين، والبسطاء والمضطهدين ممن يعيشون حياة قاسية لكنهم يرونها جميلة ويحلمون بتحسنها، غائب مجد حتى الأشياء التافهة والتفاصيل الصغيرة في رواياته الى الحد الذي تمتعه رؤية (عربات النفط ما زالت تسير هناك.. توزع النفط على البيوت، وما زال باعة السمك الميت والعربات المحملة بالخس وعربات البرتقال المغلف بطبقة رقيقة من الغبار، والسيارات منطلقة على الشارع الاسفلتي تثير الغبار والصبية يتراكضون على الأرصفة الترابية، ويثيرون الغبار أيضاً، والخضرة مغبرة متهافتة كسول) كما جاء على لسان أحد أبطال روايته (ظلال على النافذة)
الصور الندية لبغداد
برغم أن جميع روايات غائب طعمة فرمان كتبت جميعها خارج العراق، لكن من الصعب أن نجد روائياً عراقياً كتب عن الحياة العراقية مثلما كتب غائب، هذا ما قاله الكاتب جلال الماشطة، وكانت محلته المربعة بالنسبة له تكثيفاً ورمزاً لبغداد التي ظلت تمثل له وهو في غربته معيناً روحياً وجمالياً يمده بالصور والأحداث والذكريات، وهاجساً دائماً يحمله في قلبه، ويحيا به عقله، خياله يطوف ببغداد القاع يهبط في أزقتها القديمة، وبيوتاتها المتزاحمة، ومحلاتها، ومقاهيها، يتجول في شوارعها، يتجاذب الحديث مع أناسها الفقراء أبطال رواياته ليصف لنا معاناتهم وأنماط حياتهم، وقد وصفه عبدالرحمن منيف قائلاً: (هذا البغدادي الذي يحمل بغداده معه اينما ذهب ولا يتعب من النظر اليها كما ينظر الطفل الى لعبته هو بحاجة الى رائحة بغداد وشمسها) لقد كانت تمثل له نوعاً من الانتظار أي انتظار عودته اليها اذ لم يكف عن تتبع أخبارها عبر كل الوسائل المتاحة لديه، كأنه يتلمس في ذلك نوعاً من الخلاص، ومن استلاب وحشة المنفى، ومواجهة أحلامه فرغم مجرى الزمن الطويل الذي ترك بصماته على كل شيء لكن بغداد ظلت مخزونة في ذاكرته طرية حية كالفتاة (وكلما اوغل في البعد عن وطنه استحضره في أدبه بقوة لا تضاهى وهو لا يستطيع منها فراراً فقد صارت جزءاً من ضميره، وذاكرته ولا مهرب منها ولا منجى، وعزاؤه هو أن من لا ذكريات له لا ذاكرة له) وهنا نرى أن تراجيديا فرمان تتمثل في فاجعة مفارقته للمكان، بعد أن عبر بقوة في كل رواياته وقصصه عن ارتباطه الوجداني به وتشبثه العنيد ببيئته ومحلته الشعبية التي ولد وعاش فيها للحفاظ عليها من تيار الزمن وسرود الانقراض والضياع، اذ تجلت براعته الروائية في الخلق والصنعة الأدبية، ليعيد الينا بغداد في أطوارها المختلفة، في صورها الندية منذ الاربعينات حتى السبعينات، قبل أن تعتصرها أحزان الحروب والدمار والقتل..