غرائبية أحمد سعداوي في (مذكرات دي)

438

علي الشيخ داغر – تصوير : صباح الإمارة/

“إذا اختفى الجميع من حولك فلن تشعري بالوحشة، لأنك أصلا تعايشت مع هذه الوحشة منذ البداية..” هذه العبارة التي ربما ستلخص حياة قائلتها الآنسة (دي) بطلة رواية (مذكرات دي) للروائي أحمد سعداوي، وهي أولى العبارات التي ستقرأها قبل الدخول في الفصل الأول منها، جاورتها مقولات أخرى على لسان شخوص آخرين فيها، مثل جمال راجح الذي يقول: “إن غموض الحب يكمن في أن دحضه أو إثباته يملكان ذات القوة والمنطقية.”
الحب، الوحدة، من خلال هذه الثنائية الساحرة والغامضة والتراجيدية، تشعر وكأن (سعداوي) يمنحنا، حتى قبل الشروع بالدخول إلى روايته، مفاتيح عوالمها الغامضة والمتداخلة في الأمكنة والأزمنة.
غرائبية واقعية.. تعدد الأصوات
من قرأ لـسعداوي الحائز على جائزة (البوكر) العربية الدولية عام 2014 عن روايته (فرانكشتاين في بغداد)، يعرف جيداً احترافيته في كتابة رواياته، إذ يعمد الى الاشتغال على البنى السردية المختلفة وتعدد أصوات رواتها، وهذا ما سنجده في (مذكرات دي)، التي امتازت بغرائبية واقعية، وانتقالات زمانية مربوطة بحبكة ماهرة دون أن تتشظى القصة أو تتناثر شخوصها.
مجمعُ الأطياف
في الفصل الأول يدخلنا الكاتب في عالم خيالي يتجسد من خلال مجمع الأطياف في السماء العليا، الذي يفصله حاجزٌ غيمي عن سماء محفل الإلوهية، وتحت المحفل تقع سماء الأطياف السفلى، وهو عالم تحكمه (ممة)، صانعة الأطياف المرافقة للبشر، وتحت هذه السماء يقبع عالم البشر.
من هنا تبدأ الحكاية، محاكمة طيف تدخّل في مصير وقرارات (بشري) هي الآنسة (دي)، وهذا مخالف لقواعد المجلس، طيف اختار لنفسه اسم (ديفالون) بعد أن اختار لنفسه سابقاً ثلاثة وستين اسماً على مدى ألفين وخمسمئة سنة من عمره، وما إن تتعمق في القراءة ستجد سبب اختياره لهذا الاسم ذي المعنى العميق، الذي اخترعته أنسية من بني البشر هي (ديالى عبد الواحد) الملقبة بالآنسة (دي).
سردية جديدة
عمد سعداوي في روايته الى استثمار خزينه المعرفي الثر، وهو الكاتب المعروف بصبره وشغفه عند الكتابة، وانشغاله بالبحث قبل أية تجربة سردية جديدة، وهو ما نلاحظه في تأثيثه ورسمه للشخوص والأمكنة وعمارتها وقدرته على استثمار الأسطورة فيما يكتب: “كانت القاعة الرئيسة المعدّة للمحاكمة واسعة فخمة تناسب تصور من يشغلها ويستخدمها عن عظمة وجلالة المهام التي يقوم بها، أو أهميته الشخصية قياساً بغيره… فهي لا تعكس مزاجاً معمارياً محدداً، وإنما تجميعاً لطرز متباينة، وفي العمق تحت زخرف السطح، تبدو الأساسات والجدران والسقف وكأنها لشكل معبد قديم، أو كاتدرائية قوطية”.
ديفالون دي
في الرواية تقرر (دي) كتابة مذكراتها، وفيها تجمع كل الأحداث التي تمر بها، ومشاعرها المختلفة التي هيمن عليها الحزن، حزن غياب والدتها المبكر، وما تسمعه من قصص جارحة حولها، حزن علاقتها الشائكة مع شقيقتها التي لا تتوانى عن جرح مشاعرها بالكلمات القاسية: “أكتب الآن في هذا الدفتر، لأني أملك كل الوقت الذي أريده من أجل صياغة الأشياء، إنها كتابة غير موجهة إلى أحد، إنها لنفسي، نوع من إعادة الهضم، ونوع من إشباع رغبة الحوار مع أحد غير موجود في الخارج أصلاً.” رغبة دفعتها لاختراع حارس خفي تبوح له بما يجول في خاطرها، دون أن تعلم بأن هذا الحارس موجود بالفعل وهو (ديفالون)، الذي تأثر بحكايتها حتى جاهر بمخالفته لقوانين مجلس الأطياف العليا، وبات يؤثر على قراراتها، ولهذا جرت محاكمته في قاعة المجلس في السماء.
المذكرات تكشف عن قصص جديدة، وشخوص جدد، وفيها ستتغير نهاياتها بحسب ساردها، سنجد (العمّة) وهي تبوح بما لم يعرف بعد، لتمنح مفاتيح جديدة لـ (دي) علّها ترسم صورة (مزكين)، أمها الغائبة: “ارتجف قلبي وأنا أسمع العمّة تتحدث عن (مزكين)، وأنها تلوم نفسها لأنها ربما كانت سبباً في هروبها من البيت العام 1991.” لتتشعب بعدها الحكايات وتمتزج بسحرية هائلة بين ما يحدث لبطلتها على الأرض، وما يحدث لحارسها في السماء.
روحٌ معذبة
فكرة كتابة المذكرات جاءت كعلاج نفسي لروحها المعذبة، هكذا كانت تفكر (دي)، وبدأتها منذ عام 2013، لتستمر لما يقارب الثلاث سنوات، وفيها تضرب البلاد بـ (تسونامي) من المتغيرات السياسية والاجتماعية، وبينها تظاهرات عام 2015 ونتائجها وانعكاسها على كائنة قررت أن تواجه عزلتها بطرق كثيرة، ستعرف إن نجحت أم لا ما أن تقتحم عوالم هذه الرواية التي تعد تجربة جديدة ومشغلاً مهماً في مسيرة الروائي أحمد سعداوي، التي تندرج ضمن مشروعه السردي الذي عمل عليه منذ سنوات طوال.
توزعت الرواية بين واحد وثلاثين فصلاً، بدأت بالمحاكمة وصولاً إلى (ثمرة على صحن الإله) مروراً بـ (موت خديجة، أودو حديم الخائن، جنون عائلي، نيوب سبع الأرض، فتاة مختلفة، حديقة ممة، دروب الحب الشائكة، شبح في الطابق العلوي، طفلة صغيرة، عجلة الأقدار السماوية، قلعة الرجال الصيادين، الكابينة الزجاجية، شابٌ نحيفٌ وهادئ، حلمٌ ثديم، نظرية الديك، ذراعا إله مرحب، قضم الثمرة، زوابع، اعترافات، غيوم، مجرد حكاية، قُبلة في الظلام، سبعون إصبعاً، يد عزرائيل، غواص نرويجي عاري الصدر، المحرقة، رسائل، ارتفاع الدامستا، إغواء الدراما البشرية).يذكر أن رواية (مذكرات دي) للروائي أحمد سعداوي صدرت عن منشورات (نابو) وجاءت بـ 398 صفحة من القطع المتوسط..