في الذكرى الثامنة لوفاة شاعر القلم الملون.. محمد الصكار يفرشون حياتنا بالرياحين ويغادرون
محمد الكحط – تصوير: سفيان الخزرجي
غادرنا محمد سعيد الصكار (1934-2014) يوم 23 آذار 2014 بعد معاناة طويلة مع المرض، وبعد حياة مليئة بالعطاء والإبداع، وكان لفقدانه وقع مؤلم على أصحابه ومعارفه، كتبت مودعاً:
((خذوه الى بصرتهِ إلى شوارعها/ طوفوا به في أزقتها لعلها تتذكر من لم ينسها/ طوفوا به هناك/ ستزهر شوارع طفولته/ ويخضر لون قصائده/ وتتلون مخطوطاتها /إنه شاعر القصبة/ شاعر البصرة/ شاعر الغربة/ شاعر العراق الخطاط /إنه الإنسان الإنسان/ الصكار/ طاب ثراك/ لن ننساك…/ صديقك محمد الكحط)).
ترك الصكار انطباعات لا تمحى من الذاكرة بدفئه ومشاعره ووفائه للصداقة، وجمالية تعامله مع الآخرين، إنه شفاف كجنح فراشة غض، فهو ليس إنساناً عادياً، بل مناضل ومثقف موسوعي وفنان في مجالات عديدة، حتى في علاقاته الاجتماعية تشعر بدفئه وبفنه وبسعة ثقافته، ونحن في ذكرى رحيله الثامنة نقف بخشوع لاستذكاره.
ولد الصكار عام 1934 في المقدادية (شهربان)، ثم انتقل من بلد البرتقال والقداح عام 1947 الى مدينة البصرة مدينة النخيل التي نشأ وترعرع فيها، وظهر أول نتاجاته في المجالات المختلفة من صحافة وفن وشعر، وكذلك الخط والزخرفة والمسرح وغير ذلك، وظل في البصرة حتى عام 1957، تزوج في البصرة وسجن فيها أيضاً.
أول قصيدة
افتتح في البصرة مكتبا عام 1955 للخط والرسم سماه (ستديو صكار للخط والرسم)، وبدأ بنشر الفكاهات وكتابة الشعر بشكليه العمودي والحر وأبدع فيهما، فكانت البصرة حلمه الأول التي قال عنها: “إن البصرة هي مدينة الأوائل وسيدة الأوائل، ففيها أول قصيدة وأول قصة، وأول فكاهات أنشرها وأول عمل مسرحي وأول تمثيل لي على المسرح، وأول إخراج في المسرح، وأول كتاب في الصحافة، وأول حب وأول اعتقال وأول محاكمة سياسية، فهي سيدة الأوائل.” فليس غريباً أن تكون البصرة حاضرة في مجمل أعماله وإبداعاته لاحقاً، ابتداء من أول مجموعة شعرية صدرت له بعنوان “أمطار” عام 1962، مروراً بمجموعة “برتقالة في سورة الماء” عام 1968، ونشعر بآثارها وتأثيراتها في أعماله الفنية التشكيلية ولوحاته في الخط. وفي مجال الصحافة أسهم في إصدار الصحف التالية: أبو نوّاس، الخواطر، جفجير البلد، والحصون.
هجرة إلى سوريا فأخرى لباريس
في عام 1957 لجأ الى سوريا لأسباب سياسية، وأقام في دمشق التي عمل فيها معلماً في حارة قرطانية، واحتفظ الصكار في أرشيفه الخاص بالمرسوم الجمهوري الذي يحمل توقيع الرئيس السوري الأسبق شكري القوتلي بتعيينه معلماً براتب مقداره 150 ليرة سورية، وعاد إلى العراق بعد ثورة 14 تموز 1958، في بغداد افتتح له مرسماً في شارع الجمهورية أسماه (ناب)، ومن داخل هذا المكتب بدأت رحلة الصكار مع الفن فعمل مصمماً وخطاطاً، ومن هناك بدأ عمله الصحفي في بغداد إضافة إلى عمله في مكتب للإعلان، وقدم العديد من الإنجازات الفنية وأسهم في فعاليات ثقافية مختلفة، التي كانت وراء اضطراره لمغادرة العراق من جديد، بسبب مضايقات الأجهزة الأمنية للنظام الدكتاتوري له.
انتقل الصكار الى فرنسا عام 1978، فهي بلد الجمال والحرية، التي اختارها كمنفى إجباري له، ليواصل مسيرته الإبداعية في المجالات كافة ، فأقام فيها معارض عدة للوحات في الخط والفن، وحوّل بعض أبيات شعر الجواهري وغيره من الشعراء إلى لوحات فنية. فهو يعد أحد أهم فناني الخط العربي والزخرفة في العصر الحديث.
عاد الصكار من باريس عام 2004 بعد سقوط النظام الدكتاتوري، وزار البصرة وبغداد بعد فراق دام 26 عاماً، وزار العراق ثانية عام 2009، وقد استقبله الرئيس العراقي آنذاك جلال طالباني، وزيارة ثالثة بعدها، وفي الرابعة زار بغداد ليسهم في فعالية المركز الثقافي الفرنسي في بغداد، الذي نظم معرضاً تحت عنوان: (خطاطون عراقيون في باريس)، للفترة (28 تشرين أول-25 تشرين الثاني/2010)، حيث شاركه في ذلك المعرض ثلاثة فنانين تشكيليين: الصكار، غني العاني، حسن المسعود، محمد صالح، وقدم الصكار محاضرة بعنوان (الخط العربي في فرنسا: تجربة ذاتية).
عاشق الحرف
لقب الصكار بـ (شاعر القلم الملوَّن) وبـ (شاعر القصبة وعاشق الحرف) وبـ (صانع الأبجدية الطباعية) وهو شيخ الخطاطين العراقيين. حصل الصكار على جوائز عدة، منها جائزة دار التراث المعماري تقديراً لتصميمه جداريات بوابة مكة، وآخر تكريم له كان من معهد العالم العربي لبلوغه الثمانين في 17 آذار، أي قبل وفاته بأيام، الذي حضره وهو على كرسيه المتحرك.
خلال التكريم قال جاك لانغ، رئيس المعهد، ووزير الثقافة الفرنسي السابق، إن الصكار “يعد بجدارة أحد أبرز ممثلي الخط العربي المعاصر.” وفي الاحتفال وجه سؤال للصكار: أين يجد نفسه كمبدع؟ فأجاب: ((أنا أقرب إلى الشعر، لكنّ هناك رأياً يقول إنني شاعر في خطّي وملوِّن في شعري)).
أصدر 14 كتاباً في مجالات الإبداع الثقافي، وأقام 30 معرضاً تشكيلياً في العديد من دول العالم، كما أنه أسس وأدار أربعة مكاتب للإعلان في البصرة وبغداد وباريس، ونشر الكثير من المقالات في النقد الأدبي والمسرحي والسينمائي، كما قدم استشارات خطية وزخرفية لعدد من المؤسسات المعمارية في بلدان مختلفة، وهو الحاصل على جائزة وزارة الإعلام العراقية لتصميم أحسن غلاف 1972، وترجمت بعض قصائده إلى الإنجليزية والفرنسية والألمانية والدنماركية والبلغارية.
براءة اختراع
أثار الصكار الجدل في مشروعه “الأبجدية العربية المركزة” في أول محاولة لإدخال الحروف العربية في الطباعة الإلكترونية وكسر قيود الحرف العربي وتطويره بما يتلاءم مع معطيات التحديث في الطباعة على أسس علمية متطورة، وقد حصل منه على براءتي اختراع من بغداد ومن لبنان، وسجَّلهما في كل من فرنسا وبريطانيا.
عُرف بكونه أنيق المظهر خفيض الصوت حريصاً على التعامل الحضاري والثقافي، ظل مخلصاً لأصدقائه القدماء، وتجد هذا في شعره الذي كثيراً ما يحيي به المجالس، وهو ما يمكن التعبير عنه بالإخوانيات. انتمى إلى اليسار العراقي، لكنه لم يبق مشدوداً لتنظيم حزبي بعد أن تفرغ لفنه وشعره، وما يكتبه من خواطر حيَّة في الصحف العراقية والعربية.
أما الصكار فيقول عن نفسه: “أنا أحمل الوطن معي أينما سرت، أنا صحفي ومقيم في المطابع، وعندما لا أشمُّ حبر المطابع أدوخ.” وعن سيرة حياته قال “أنا إنسان مدني التكوين، أعني لست ريفياً، فعلاقتي بالمدينة علاقة حميمية.”
وهو القائل: “حبري أسود فلا تطلبوا مني أن أرسم قوس قزح.” وهذا ما يعكس معاناته.
أنشد للبصرة
كتب عنها قصائد عدة ، نختار منها هذا النص، وهو يحاكي الموت وعودته التي تنبأ بها الى بصرته….
((…لا تقولوا أتينا به ليودعكم
بل خذوني برفقٍ الى الثانوية، وأمّ البروم
اتركوني قليلاً على جسر سورين
في رأس سوق الهنود
أرى مكتبتي
وأقبل فيه جميلاً وموسى وتوفيق
أملأ عيني من القصب المتناثر بين الوريقات
أرنو الى الشط
أرقب نادل قهوتنا
فلولا مروءته ورجولته لانتهيت
وما كان لي موعد معكم
لا تقولوا أتينا به ليودع
لا توحشوهم
وخلوا طريقي يمر بحي الإبلةِ
ألقى جميلاً
أعانقه
واذهبوا بي الى حيث شئتم
أنا صيدكم
وهيَ لي آخر الرغبات)).
رسالة ومناشدة للمسؤولين:
ترك الصكار ثروة فنية لا تقدر بثمن، فهناك عشرات الأعمال الفنية النادرة، ناهيك عن نتاجاته الإبداعية في الشعر والأدب، نأمل من المعنيين بالثقافة العراقية، وزارة الثقافة وجمعية الفنانين التشكيليين، واتحاد الأدباء والكتاب في العراق وغيرهم، التواصل مع عائلته لجمع ذلك الإرث الجميل والاحتفاظ بهِ، ليطلع عليه الشعب العراقي. كذلك نهيب بالباحثين والدارسين دراسة هذه الشخصية النادرة، لتكون حصيلة تلك الدراسة في خدمة الثقافة والمثقفين.