في الذكرى الـ 60 لرحيله السياب.. تخليد المدينة وخلود الشعر

40

خضير الزيدي
في البصرة، هذه المدينة الغافية على مياه الخليج، المطلة على حدود الحرب والنفط والفقر معاً، هناك الكثير من العلامات الدالة التي ترشدك إلى بيت الشاعر بدر شاكر السياب ( 1926 – 1964).

وأنت تحث الخطى باتجاه ذلك المنزل، ليس غريباً أن يعرفك البصريون بأنك شاعر متأثر، أو صحفي، تبحث عن بويب وجيكور ومدينة (أبو الخصيب)، فكل من سعى قبلي لزيارة بيت السياب يعرف أن ذاكرة البصريين لا تفتقر إلى اسم شاعرهم، وكيف كتب لبويب وغنى لإقبال وأطلت عيناه على الخليج ودوّن أجمل نصوصه الشعرية عن العراق. الكل هنا يعرفونه أكثر مما يعرفون سعدي يوسف، مع أن الاثنين من قرية واحدة، فما الذي ميزه ليبقى في الذاكرة؟
انتكاسة نفسية
شاءت الظروف، ومعها مأساته الإنسانية، أن يكون شاعرنا بدر شاكر ثورياً في السياسة والشعر الحديث، وميزته ثقافته واهتمامه بالأساطير ومواكبة الشعر الإنكليزي وطريقة تحرره من بحور الشعر بين أقرانه، من أمثال نازك الملائكة وعبد الوهاب البياتي وبلند الحيدري.
تذكر لنا مصادر التاريخ وأناس مقربون من السياب أن أباه تزوج من ابنة عمه كريمة، وعمرها يومذاك سبعة عشر عاماً، رزق منها ابنه بدراً، وفي فترة طفولته شاء القدر أن يفقد شاعرنا والدته، ما شكل انتكاسه نفسية، بدأت تظهر جلياً في قصائده، وتأخذ جانباً حاداً، وهذا ما يتلمسه القارئ في جزء من نصوصه الشعرية إذ يقول:
“بأن أمه.. التي أفاق منذ عام
فلم يجدها،
ثم حين لج في السؤال،
قالوا له بعد غد تعود،
لابد أن تعود”.
سجن وفصل
يذهب الكثير من النقاد المعاصرين ممن أولوا أهمية لمجاميعه، وتطلعات حركة الشعر الحر التي أرساها، إلى أن لتاريخ المكان الريفي الأثر الأول في نفسيته، فقد تفتحت قريحته الشعرية تحت ظلال أشجار النخيل. عاش السياب يتيم الأم، وكانت سنوات طفولته الأولى تعكس ألماً واضحاً لغيابها، ومن هذه الصدمة تفتحت أبواب الشعر الأولى.
اكتسب السياب معالم دروسه الابتدائية في البصرة بمدرسة (باب سلمان)، وبعد نجاحه في مرحلتي الابتدائية والثانوية شد الرحال إلى بغداد ليتعلم في دار المعلمين العالية، دارساً نحو وبلاغة وآداب اللغة العربية، ومهتماً باللغة الإنكليزية أيضاً، وبعد تخرجه في تلك الدار عام 1948 سافر إلى الرمادي ليدرس اللغة الانكليزية هناك، وسرعان ما تكشفت ميوله وتوجهاته اليسارية، ما قاده ليلتحق بركب النضال الوطني، وأدى به هذا التوجه ليفصل من وظيفته الإدارية وإيداعه في السجون.
تطور فني
عاد إلى محل ولادته مدينة البصرة ليتزوج عام 1955من السيدة إقبال، التي أنجبت له غيلان وابنتيه، وقد أشار لهم في أكثر من قصيدة، سواء ما تعلق بالحب والعاطفة، أو في وصاياه المفعمة بالحزن والترقب من المجهول، ويشير الغالب من النقاد إلى أن تطوره الفني بدا واضحاً بعد زواجه، لما تحقق له من عاطفة جياشة، كاسراً حاجزي الجنس والحب ومعبراً عنهما بلغة الشعر، ولكن بقيت صورة الألم هي الأكثر علواً في نصوصه:
“إقبال يا زوجتي الحبيبة
لا تعذليني ما المنايا بيدي
ولست لو نجوت بالمخلد
كوني لغيلان رضى وطيبة
كوني له أباً وأماً وارحمي نحيبه.”
شاعر مجدد
تطورت قابلياته الإبداعية، فتحقق على يديه الكثير من المؤثرات الشعرية من جراء اهتمامه بالنص الشعري الإنكليزي، واستطاع بعقليته المجددة أن يكتب دواوينه الشعرية لتبقى في سجل القصيدة الحديثة، وهذا ما جعل حركة الشعر العربي والعراقي إبان الستينيات، التي دعت إلى قصيدة النثر، أن تعترف أن خطوات تجديد الشعرية بدأت على يديه، دون أن تتجاهل قيمته ومعايير وسمات نصوصه، واهتمامها بالموروث والأسطورة وخطاب التغيير في بناء وشكل القصيدة العمودية. أصدر شاعرنا السياب عشرات الدواوين والكتب المترجمة، وهي اليوم محل اهتمام النقاد والدارسين لتجربة قصيدة الشعر الحر.
غريبٌ على الخليج
عاش السياب حياة ألم وفقر، وعانى من المرض، عولج في مستشفيات لندن والكويت، ومن هناك كتب أجمل قصائد الحب في ارض العراق.
توفي في الرابع والعشرين من كانون الأول عام 1964 بعد أن عاش 38 عاماً متنقلاً بين بلدان كثيرة، تاركاً خلفه ثقلاً معرفياً قلما أنجزه أديب في وقتنا الحاضر. وفي لحظات الدفن المؤلمة آنذاك، أمر المدير العام لدائرة الموانئ العراقية أن تخلي أسرة السياب تلك الدار العائدة إلى الموانئ، ورمي أثاث بيته مع أطفاله خارج المنزل، وأصبحنا من بعده نعيد تلك المقاطع التي يذكر فيها اسم بلادنا:
“يا ليل أين هو العراق
أين الأحبة؟ أين أطفالي؟ وزوجتي والرفاق
يا أم غيلان الحبيبة صوبي في الليل نظرة
نحو الخليج تصوريني أقطع الظلماء وحدي”.