في رسالة كتبها قبل 95 عامًا بعد أن طافَ البلاد الحَسَني للكرملي: السليمانيةُ أجمل مدينةٍ شهدتُها في العراق

54

حسين محمد عجيل

كان المُؤرّخ عبد الرّزّاق الحَسَنيّ (1903- 1997م)، مُؤلِّفُ موسوعة (تاريخ الوزارات العراقيّة)، في مُقتبل شبابه حين شاهد مدينة السُّليمانيّة لأوّل مرّة، فكتب إلى العَلّامة أنستاس الكرمليّ (1866- 1947م) صاحبِ مجلّة (لُغة العرب) الشّهيرة، رسالةً يوم 1/3/1930، ضمَّنها انبهارَه بجمالِها وطابعِها الحضاريِّ اللّافتِ، وطبيعتِها الجبليِّة في تباشير ربيع ذلك العام، عقبَ طَوافِه في مُعظم مُدنِ العراق.

لقد ظلّت هذه المدينةُ- الّتي احتُفيَ مُؤخّرًا بمُناسبة مُرُور 240 عامًا على تأسيسها- مُحتفظةً بجمالِها ورُقيِّها ورُوحِها المدنيِّ الخالصِ، بُرغم ما أصابها من مِحنٍ في عُقُودٍ مضت. وإحياءً لهذه الذّكرى المُتزامنة مع تباشيرِ الاحتفاءِ بشقيقتِها الكُبرى بغدادَ عاصمةً للسِّياحة العربيّة، يسرّني نشْر رسالة الحَسَنيّ النّادرة، مُستعيدًا ظُرُوفَ كتابتِها وسياقَها التّاريخيَّ، ومُسلِّطًا الأضواءَ على توجُّهِ الحَسَنيِّ الرّائدِ في التّعريف بمُدن البلاد وثراء تنوِّعها، وكاشِفًا عن طبيعة الصّلة الجامعةِ بين اثنين من رجالاتِ النّهضة الحديثة.
تنوع ثقافي
شرعَ الكرمليُّ في نهايات القرن 19 في التّعريف بأحوال بلادنا وأُمّهات مُدنها، وتنوّعها الثّقافيّ والدّينيّ والعِرْقيّ، وشجَّعَ نُخبةً من تلامذته على مُواصلة هذا المشروعِ الحيويِّ، وكان الحسنيُّ أبرزهم، فسار على خُطاه في رحلةٍ ابتدأت مُنتصف العشرينيّات لكُلِّ مُدنه جنوبًا وشمالًا، نشرتها في حلقاتٍ مجلّةُ (لُغة العرب)، وسُرعان ما جمعَها في كتابِه (رحلتي في العراق) الصّادر ببغدادَ سنة 1930. وفضلًا عن توثيقِه تاريخَ البلاد السِّياسيَّ، وضعَ كُتبًا اُخرى- حظيتْ بالرَّواج وأثارت السِّجالات- عن الصّابئة المَندائيِّين والإيزيديّين والبابيّة والبَهائيّة، بعد أن استنفرَ طاقاتِه الحيويّةَ في التّجوال والتّسجيل الآنيّ والذّكيّ لمُشاهداته بالقلم والعدسة، وتوثيق ما تُدلي به مصادره من معلومات يضع لها الخلفيّة التّاريخيّة استنادًا لكُتُبٍ وموسوعات موثوق فيها، ويُحسَبُ له أنّه ظلَّ يُحَسِّنُ ويُجوِّدُ بها في طبعاتها المُتلاحِقة، مُستفيدًا في تجواله من بدء إنشاء الطُّرق الحديثة الرّابطة بين المُدن والبلدات النّائية، ومُستثمرًا ظهورَ السّيارةِ في تلك الأعوام وسيلةً مُريحةً وسريعةً وآمنةً للنّقل، تُوفّرُ الوقتَ والجُهدَ والمال.
مركز تجارة
تأخّر نَشْرُ ما كتبه عن السّليمانيّة في مجلّة (لُغة العرب) إلى مطلع تشرين الأوّل 1930م، حين صدر الجُزء العاشر من سنتها الثّامنة، ضامًّا مقالته (ِلواء السُّليمانيّة): ص731- 737. وجاءت مُقسّمةً على ثماني فِقْراتٍ: توطئة، تنظيمات اللِّواء الإداريّة، موقعها وهؤاؤها ولُغة أهلها، حاصلات المدينة، نواحي مركز اللِّواء، قضاء حَلَبْجَة، قضاء شهر بازار، معلومات عامّة عن اللِّواء. و(اللِّواء) هو التّسمية الإدارية القديمة للمُحافظة. وعقَّبَ عليها الكرمليُّ (ص737- 738) مُترجِمًا ما وردَ عن المدينة في (دائرة المعارف الإسلاميّة).
وإذا كان الحَسَنيُّ لم يُوردْ في المقالةِ عباراتِ الرّسالةِ الحماسيّةَ في وصف المدينة، فإنّه أحسنَ وصفَها بقوله: “أمّا مركزه [مركز اللِّواء]، فبلدةُ السُّليمانيّة ذات المناظر الطّبيعيّة الخلّابة، والأشجار الخُضْر والمُروج الفنّ، وذات المركز التّجاريّ الخطير. وليس في ديار الكُرْد في العراق بلدةٌ تُماثلها بكثرة الحاصلات، وسعة التّجارة، وخُطورة المركز، وبداعة المنظر.”
انتفاضة الحفيد
ويُلاحَظُ أنّ الحَسَنيَّ حين جمعَ كتاباتِه المنشورةَ في (لُغة العرب) عن الألوية العراقيّة، وأصدرها في كتابٍ، لم يتقيّدْ- لا سيما فيما يخصّ السُّليمانيّة- بما نُشِر بالمجلّة، فجاء المبحثُ عنها بكتابه مُختصرًا، وبين يدي الآن طبعتُه الثّالثة، وما مُدّون عن هذا اللِّواء لا يزيد عن ثلاث صّفحات، غلب عليها بيانُ الآثارِ الّتي تركتْها فيه الأزماتُ النّاتجةُ عن انتفاضة الشّيخ محمود الحفيد أكثر من مرّة، الّتي أدّت إلى اضطرابات واسعة، وتدخّل الجيش.
كان الحسنيُّ واثقًا من الأهمّيّة الاستثنائيّة لمشروعه في كتابة هذه المباحث عن أوضاع العراق جُغرافيًّا وسُكّانيًّا وحضاريًّا، وما امتاز به من كشفٍ عن تحوّلاته الاجتماعيّة والاقتصاديّة والإداريّة والسّياسيّة وثراء تنوّعه في بدء تشكُّلِه دولةً حديثةً بحُدودِها المعروفةِ نفسِها مُنذ فجر التّاريخ، تحاولُ أن تُتِمَّ استقلالَها السّياسيَّ عن بريطانيا الدّولة المُنتدبة. ولذلك كتبَ في رسالةٍ أُخرى للكرمليِّ مُؤرخّةٍ في 17/3/1930 مُقرًّا بفضله ومجلّته عليه: “نظرةٌ واحدةٌ في المقال المُرفق بطَيِّهِ تدلُّكم على الأتعاب الكثيرة الّتي تجشّمتُها في سبيل جمْعِ هذه المعلومات، واقتطافها من الكُتُب والسّالنامات التُّركيّة والمَعْلمة الإسلاميّة وغير ذلك. وإذا كُنتُ قد برزتُ على إخواني الشُّبّان في هذا السّبيل، فالفضْلُ في ذلك يعودُ إلى حضرتكم، حيثُ كُنتم ولا تزالون في طليعةِ مَن مَهَّدَ لي سُبَلَ البحث والتّنقيب، ونشَّطَتني على ذلك مجلّتُكم الزّاهرةُ”.
وكان مُدرِكًا لأهمّيّة النّشْرِ الواسعِ النّطاقِ لمثل هذه المباحث في ترسيخ معرفة أبناء البلاد بأصقاعها المُختلفة لتعزيز شُعور الانتماء وترسيخ الهويّة الوطنيّة الجامعة، بعد أن فَقَدَ العراقُ استقلالَه السّياسيَّ عُقْبَ سُقوط بغدادَ بيد هولاكو سنة 656هـ/ 1258م. ولذلك كان استقبالُ هذه المباحث في كتاب (رحلتي في العراق) لافتًا، إذ تلقّفته الأيدي ونفدَ من الأسواق في وقتٍ قياسيٍّ، ما استدعى إعادة طبعه عدّة مرّات.