في كتاب “وعي الحداثة” قراءة في البنية الدرامية للقصيدة

443

خضير الزيدي

يركز الباحث سعد الدين كليب في كتابه الصادر عن دار الينابيع، الموسوم بـ (وعي الحداثة)، وهو عبارة عن دراسات نقدية عدة، يركز على مباحث الشعرية العربية، متطرقاً إلى العديد من الخيارات التي ضمت في طياتها قراءات عن الوعي الجمالي والشكل الإيقاعي والبناء الدرامي والحداثة الشعرية، إضافة إلى البنى الصورية ومستويات الرمز في الشعر، وغيرها من المواضيع التي نجد فيها متعة قرائية تعيد إلى أذهاننا تنوع الأفكار التي تخص التجديد والعرض النقدي، ولاسيما الأكاديمي المحافظ على سياقه الفكري.
مفهوم الحداثة
يستهل كتابه بمقدمة تمهيدية، يرى فيها ما جرت معالجته بخصوص الحداثة الشعرية وإسهام النقد الفعال في تحديد وبلورة مفهوم الحداثة، ويعتقد أن مقاربته النقدية في هذا الكتاب تقوم على مقولة محورية مفادها أن الفن هو نتاج الوعي الجمالي، وبالنتيجة يأخذ الوعي النقدي محوره في ذات السياق الجمالي، لكون الفن، وحسب رؤية سعد الدين كليب، هو الأكثر قدرة على تباين الوعي وتجسيده وتمثيله.
من هذه الفكرة تبدأ الانطلاقة التي يتبناها الناقد حيال النقد من منظور جمالي، حينما يشير إلى الحداثة الشعرية بكونها حداثة في الوعي الجمالي، وذلك في الفصل الأول من الكتاب، المسمى بـ (الحداثة الشعرية في النقد الأدبي المعاصر)، إذ يقف عند أبواب عدة، منها ما يخص النقد ونشأة الحداثة، ويذهب فيه إلى التفسير التأثري، والتفسير الاجتماعي، والتفسير النفسي، ثم يدخل إلى مبحث الأنساق النقدية، ليوضح للقارئ مباحث تحتمل تنوعاً في الإشارات، منها ما يتعلق في النسق الموسيقي، والخاص بنمطية العروض والانفعال الشعري، وهندسة الشكل الشعري، وقيود الجرس، والأذن الموسيقية.
بنية النصوص
ينمي الناقد قدرة التواصل حينما يذهب بالمتلقي إلى النسق الأسطوري في الشعر، وتداخل هذا الفهم مع بنية النصوص وتركيبها البنيوي، ويضرب لنا أمثلة بالسياب وأدونيس والخال وحاوي، وما تنهض به نصوصهم من توظيف فكري وأسطوري يبعث على التجديد وتقديم نتاج يبنى على أساس توظيف القديم.
ولم يكتف الناقد بهذين النمطين، فهناك النمط الصوري الخاص بالصورة الفنية، عاداً أن أساس الصورة إنما يكمن في الخلق، لا في المحاكاة، إضافة إلى أنها أضحت في الشعر المعاصر وسيلة الخلق والكشف. ومن قراءاته الخاصة ينبهنا المؤلف إلى نسق جديد، هو الرؤيوي، وهو يعيد لنا تمثلات الرؤيا الحداثوية من خلال التوكيد على المستويات الفنية والشكلية معاً.
الانتقالة الثانية للكاتب تتوقف عند تسمية الفصل الثاني من هذا الكتاب تحت عنوان (الوعي الجمالي في الحداثة الشعرية)، ويرى في الأخير أنه يشكل الأساس الذي انطلقت منه الحداثة الشعرية العربية، وهناك طروحات عدة تبنت هذه الرؤية، سواء أكانت على المستوى الفني أم الظاهرة الشكلية. ويتبنى الناقد مسألة مهمة يعتبرها ضرورية، حينما يشير إلى غياب النقد التحليلي، ثم يتطرق إلى طبيعة الذوق الجمالي واختلافه بين المتلقين، وينبهنا إلى طروحات (غولدمان) تجاه الفن وتصوره وتحديد طبيعة الوعي، ويأخذنا الى التعريف الذي يتبناه حيال الوعي الجمالي حينما يؤكد على أنه الوعي الذي يتناول الظواهر والأشياء من خلال سماتها الحسية وأثرها في الطبيعة النفسية والروحية.
ويسترسل الباحث في هذا الفصل مؤكداً على أن الشعرية العربية جاءت تلبية لحاجة جمالية ناشئة في المجتمع العربي وتعبيراً عن وعي جمالي تبلور عبر نصف قرن. ومن الطروحات التي يدخل سعد الدين كليب إلى صلبها مفهوم التجادلية، الذي يرى فيه السمة البارزة من بين سمات عديدة لتحفيز الوعي الجمالي حيال الحداثة، عاداً إياها أنها تهيمن على مستويات النص الشعري الحداثي، ولا يكاد يخلو منها ومن آثارها، ثم يلفت أنظار القارئ إلى الشكل الإيقاعي، فهذا الأخير مفتوح على احتمالات عدة، يجزم الناقد أن أية نظرة جمالية لن تتجاوز مفهوم الإيقاع، ويعده من مكونات استيعاب النص وانطلاقته التعبيرية. وينتقل إلى البنية الصورية وما شكلته من انقلاب جذري في الشعر لأنها تنهض مع مقومات عدة داخل بنية النص الواحدة، مشكلة –بالنتيجة- طريقة بنائية من شأنها أن تتداخل لتكون المعنى وفقاً للإنتاج الأمثل الذي ينشده الشاعر، ويستشهد بنصوص عديدة من أهمها نصوص السياب.
في الفصل الثالث يبحث الناقد (كليب) عن جماليات الرمز الفني في شعر الحداثة، معرجاً على المدرسة الرمزية، ومستشهداً بـ (أوسكار وايلد) بعد أن يعرف الرمز الفني بأنه صورة الشيء، محولاً إلى شيء آخر، ويفرق بينه وبين الإشارة ومستوياتها، فيجد في الرمز السمة الانفعالية التي تعني بأنه حامل لوظيفة انفعالية وحسية، ويفرق بينه وبين الرمزين الديني والأسطوري، مثلما يجد في الرمز السمة التخيلية لأنه نتاج مجاز وليس حقيقة، ويذهب بطروحات (أدورنو) مثلاً .
وفي الفصل الرابع يناقش المؤلف جمالية النموذج الفني في شعر الحداثة عاداً أن هذا الأخير قد أسهم -وبشكل واضح وكبير- في توكيد سمة الدرامية في الوعي الجمالي الحداثي، مثلما أسهم في توسيع دائرة المساحة الاجتماعية، التي أخذ على عاتقه الدخول إلى مكوناتها وميولها الموضوعية.
الخطاب الآيديولوجي
لم تتوقف الدراسة النقدية المقدمة لنا في كتاب سعد الدين كليب، والموسومة بـ (وعي الحداثة.. دراسة جمالية في الحداثة الشعرية) عند حدود ما قدمناه من قراءة، بل إن هناك الفصل الذي يناقش الخطاب الشعري الآيديولوجي وحمولاته في تغطيه متن النص وبث إشاراته الفكرية، فهو يرى النص خطاباً آيديولوجياً، من شأنه أن يسهم بفاعلية وتكوين ينطويان على درجة عالية من التأثير، مثلما تحتمله التقنية في بلورة عمل حقيقي، ومن هنا يرى الناقد أن النظر إلى الشعرية العربية المعاصرة حدث عبر متباينات تتعلق بالجوهري منها وبالمسطح، وما أنجزه النقاد سابقاً، وفي هذه المرحلة يبقى رهين القراءة والكشف، إذ يعطينا مزيداً من المعرفة والمراجعة لمنجز شعري ظل وفياً لمكوناته وأهدافه.

الكتاب صدر عن دار الينابيع، وهو منجز يستحق الوقوف عليه لاعتبارات كثيرة، منها ذلك الكشف والتحليل المعرفي الذي يوصل القارئ إلى مناطق مجهولة تبين له مدى معرفة ما قدمته الشعرية من امتدادات في الشكل والمضمون معاً.