في محاضرة مفيد الجزائري الثقافـــــة، ووزارة الثقافــــــــة.. عشرون سنة بعد التغيير

163

زياد جسام – تصوير: علي الغرباوي /

استضافت كلية التربية في الجامعة المستنصرية على قاعتها الخاصة بالمؤتمرات، قبل أيام، الوزير الأسبق لوزارة الثقافة العراقية الأستاذ (مفيد الجزائري)، وكان ذلك بالتعاون مع قسم اللغة العربية وشعبة الإعلام والعلاقات العامة، وفيها قدم الجزائري محاضرة بعنوان (الثقافة، ووزارة الثقافة.. عشرون سنة بعد التغيير). أدار الجلسة (د. قيس العطواني)، وبدأها مرحباً بالحضور ومعرِّفاً بالأستاذ الجزائري، سارداً سيرته الطويلة، ومنها أنه عُين وزيراً للثقافة في فترة مجلس الحكم المؤقت عام 2003، واعتبرت فترة وزارته فترة استثنائية في تاريخ وزارات الثقافة العراقية، إذ أنه الوزير الوحيد حتى الآن، الذي لم تسجل عليه أية شبهة فساد.
تحدث بعد ذلك الأستاذ مفيد الجزائري عن مسيرة الثقافة العراقية الحديثة، وذكر أنها “بدأت واقعاً بعد الخلاص من الهيمنة العثمانية ونشوء الدولة العراقية بشكلها المعروف منذ اوائل العشرينيات والثلاثينيات والأربعينيات.. وصولاً إلى السبعينيات، إذ بدأ الانفتاح على العالم وتنامي الوعي الوطني، وحتى النقابي، وصدور صحف جديدة مع تطور الكتابة، حينها بدأت تنشأ وتنمو بعض أشكال العمل الثقافي. وفي غضون سنوات معدودات انطلقت نهضة ثقافية لا سابق لها، حتى أن انفجار ثورة 14 تموز كان وليد نهوض ثقافي واسع، وأمامنا نصب الحرية العظيم الذي ارتفع عالياً بعد 14 تموز، ثمرةً كانت الأجمل والأرقى لتلك النهضة الثقافية، وشاهداً عليها حياً لا يذوي. نعود إلى تلك النهضة الثقافية الفريدة وننتبه إلى أنها تحققت ولم تكن حينها في العراق وزارة ولا حتى مديرية ثقافة، ومن دون أي دعم حكومي. لكنها تحققت بجهود المثقفين والمبدعين أنفسهم، ومن ورائهم المجتمع الأهلي، او ما نسميه اليوم المجتمع المدني، بروحه الوطنية المتوثبة.”
وأضاف: “واصلت ثقافتنا حراكها وتطورها اللافت، بتأثير واضح من النخب الوطنية الديمقراطية واليسارية، بعيداً عن نفوذ تلك الأنظمة وسلطاتها، حتى منتصف الستينيات حين صارت مصدر قلق لأنظمة ما بعد شباط. لهذا حُولت وزارة الإعلام إلى وزارة الثقافة والإعلام، وشرّع لها في أيار 1968 نظام بديل لنظامها السابق. واستمر هذا الحال 35 سنة، حتى الانهيار عام 2003، إذ تحولت خلالها الوزارة، ليس فقط إلى جهاز تحكم وسيطرة مطلقة على الثقافة والمثقفين والعمل الثقافي، بل وإلى شرطي إرهابي قامع لها ولهم.”
وعن العشرين سنة الأخيرة التي تلت انهيار النظام الدكتاتوري في نيسان 2003، تحدث الجزائري قائلاً: “بعد أسابيع معدودات من مباشرة الوزارة نشاطها غداة تكليفي بحقيبتها في مطلع أيلول 2003، تكوّن فيها، واقعاً، فريق عمل وقرار غير رسمي، ضم الفقيد كامل شياع والكاتبة لطفية الدليمي، إضافة إليّ طبعاً، ومعنا وكيلة الوزارة المعمارية ميسون الدملوجي. هذا الفريق هو في الواقع، ولست أنا بمفردي، هو من كان يبحث ويتخذ القرارات المهمة في الوزارة، ومن كان يدرس أولاً القضايا والمهمات الكبيرة التي تواجهها ويحسم أمرها. باشرنا العمل بإحداث تغييرات جذرية في الواقع الثقافي وفي السياسة الثقافية، وفي أوائل 2004 نشرنا وثيقة عملنا. ومن المفارقات أن أول صدى لها لم يأتنا من الداخل، بل جاء من الخارج، ومن منظمة اليونسكو تحديداً، إذ اعتبرت المنظمة هذه الوثيقة إنجازاً مهماً، وحثتنا على دعوة مثقفينا، من داخل العراق وخارجه، إلى مؤتمر عام يناقشها (الوثيقة) ويعتمدها.
واصلت اليونسكو موقفها الإيجابي المشجع والداعم لوزارتنا، وبلغ هذا الموقف إحدى ذراه أواخر أيار 2004 في عقد (الملتقى الثقافي الأول من أجل العراق) في مقر اليونسكو نفسها بباريس، وبدعوة منها، وشارك فيه عشرات المثقفين العراقيين من الداخل والخارج، وعدد من المعنيين في اليونسكو، وخرج الملتقى بوثيقة جديدة تركز على المهمات الثقافية البعيدة المدى أكثر مما على القريبة.
لكن لقاء باريس هذا، وما تمخض عنه، لم يلغيا تطلعنا إلى تنظيم مؤتمر عام للمثقفين العراقيين، ولم يحدّا من سعينا إلى عقده. وبالفعل أصدرت الوزارة في تموز 2004 ورقة حملت مشروع المؤتمر بالتفاصيل، وحددت موعد عقده في تشرين الثاني من السنة ذاتها 2004.
لكن ذلك الموعد أُجل لأسباب أمنية وسياسية إلى أواسط نيسان 2005 حين عقد، وكان مؤتمراً كبيراً حقاً من ناحية سعة المشاركة فيه، وفي مساهمة عدد غير مسبوق من المثقفين في ورشة الـ 16، وفي الحصيلة الكبيرة والمهمة التي خرج بها في ختام أعماله. هذه الحصيلة هي مجموع التوصيات التي وضعتها ورشة المؤتمر الـ 16، وحددت في كل منها المهمات التي يتوجب العمل على إنجازها في جميع مجالات الفن والثقافة..
بعد أسبوعين من اختتام أعمال المؤتمر، في نهاية نيسان 2005، انتهت مهمتي في وزارة الثقافة، وجاء وزير جديد ليحل محلي. وفي محل هذا جاء لاحقاً وزير غيره، ثم وزير، وآخر .. ليزيد المجموع حتى الوقت الحاضر على عشرة وزراء تعاقبوا على الوزارة. لكن كل ما سعينا إليه في بناء الوزارة طيلة 20 شهراً، لنحققه ونقطع الصلة كلياً مع العهد الدكتاتوري وثقافته، ولنبني وزارة ثقافة وثقافة تليقان بالعراق وشعبه ومثقفيه، وتشرعان الأبواب لإطلاق مساهمتيهما: فكراً وفناً وعلماً وتعليماً وأدباً وبحثاً في إعمار البلد وتنميته وتطويره، لما فيه خير العراقيين وتقدم وطنهم وازدهاره .. هذا كله بقي كما تركناه قبل 18 عاماً، على حاله والتراب يغطيه، ولا أقول اكثر من هذا. باستثناء شيء واحد ربما، هو التوصيات الثمينة لمؤتمر المثقفين. لكن هذه التوصيات لم تر النور منشورة ولو في كتاب تصدره الوزارة، لا أبدا، وإنما أصدرته منظمة غير حكومية تعنى بالثقافة، هي الجمعية العراقية لدعم الثقافة.”
وختم الجزائري حديثه بجملتين: “حزينة هي قصة وزارة الثقافة، أليس كذلك؟ وحزينة هي قصة ثقافتنا ومثقفينا معها وخيبات آمالهم فيها.”
بعد ذلك جرى فسح المجال للمداخلات، وكانت أولاها للأمين العام لاتحاد الأدباء والكتّاب العراقيين (عمر السراي)، شكر من خلالها جميع القائمين على هذه الندوة المهمة، وقال: “شهادتي بالأستاذ مفيد الجزائري مجروحة، فأنا كنت شاهداً حياً على ما قاله وما فعله، كلنا نفكر دائماً ونقول ما جدوى وجود وزارة اسمها وزارة الثقافة، وهل تحتاج الثقافة إلى وزارة؟ لقد كانت الثقافة موجودة في عصر لم تكن فيه وزارات، فهي موجودة بمثقفيها ورموزها وكتابها وفنانيها، لكن في زمن الأستاذ الجزائري أصبحت للوزارة جدوى، فالوزارة هي الرجل، مع العلم أن الحكومة في وقت وزارة الجزائري لم تكن لها ستراتيجية ثقافية..” وفي ختام كلمته شكر الأستاذ مفيد على جميع مواقفه المشرفة.
أما (د. أحمد الزبيدي) فكانت مداخلته عن مصطلح الثقافة، الذي كان عصياً على المفكرين أن يجمعوه بين كفتي معجم، ومن التعريفات التي كتبها محمد عادل الجابري الذي قال “إن الثقافة هي ما يتبقى بعد نسيان كل شيء.” وفي ظل هذا المفهوم تحدث عن صفة المثقف وكيف تغيرت من زمن إلى آخر، مشيداً بدور الأستاذ الجزائري كمثقف قبل أن يكون وزيراً.
بعدها تحدث (د. جمال العتابي) عن تجربته العملية في وزارة الثقافة، التي بدأت عام 2003 وعمله مع الأستاذ الجزائري، وقال: “من خلال تجربتي، أقول إن أزمة الوزارة بعد 2003 تكمن في أنها خضعت إلى المحاصصة، ولم تقتصر عملية المحاصصة على الوزير فقط، وإنما امتدت إلى جميع مفاصل الوزارة، حتى وصلت إلى المديرين العامين. كما أريد الإشارة إلى إخفاقين كبيرين تتحملها الوزارة في فعاليتين كبيرتين هما (النجف عاصمة الثقافة الإسلامية) و (بغداد عاصمة الثقافة العربية)، إذ جرى توزيع المبالغ التي رصدت لهاتين الفعاليتين الكبيرتين بين (القبائل)! وأيضاً هناك خسارتان كبيرتان لوزارة الثقافة تمثلتا باستهداف الشهيدين كامل شياع وقاسم عبد الأمير عجام، وأن استهدافهما يؤكد أن هناك استهدافاً للعقل التنويري من قبل عناصر الجهل والظلام.”
أما الروائي (عبد الستار البيضاني)، فقد أشاد في مداخلته بدور الأستاذ مفيد الجزائري الثقافي الكبير، وكذلك تحدث عن نزاهة ومهنية الأستاذ مفيد من خلال تطرقه لبعض القصص التي كان شاهد عيان فيها.
وقبل الختام تحدث (د. قاسم العكيلي)، معاون عميد كلية التربية، عن بعض الأحكام التي أطلقها المشاركون في الملتقى حول عمل الوزارة، وذكر أن الوزارة في زمن الأستاذ مفيد كانت ظروفها أفضل بكثير، وأن الإشكالات التي حصلت بعد ذلك لم يكن سببها الوزراء الذين تناوبوا على الوزارة، وإنما بسبب أن ظروفهم كانت قاسية ولا تسمح بالعمل بسهولة.. وأضاف أن هناك قامات ثقافية مهمة في مفاصل الوزارة مثل (د. عارف الساعدي) وغيره، لا يمكن نكرانهم، ولا نستطيع أن نهمش دورهم الحالي.