قراءة في “المسرّات والأوجاع” لفؤاد التكرلي

816

#خليك_بالبيت

مها سعد /

صمَّم فؤاد التكرلي روايته المهمة (المسرّات والأوجاع) لتكون وثيقة أدبية بالغة الإتقان والأثر الجمالي، جاعلاً إطارها الزمني ينطلق من بدايات القرن العشرين، من نشوء تلك الأسرة الفقيرة في ذلك الحي شبه المجهول من مدينة خانقين، الذي أخذ اسمه لاحقاً (دربونة الشواذي) من الطريقة التي كان الناس ينظرون بها إلى عائلة عبد المولى ذوي الأشكال الغريبة.
لقد أراد لروايته أن تسجل أيضاً ذلك الصراع الخفي المحتدم بين المركز والهامش في تاريخ العراق السياسي والاجتماعي، إذ أن تلك العائلة التي بدأت تتكاثر بسرعة غريبة، خرج منها فرع صغير توجه إلى بغداد، وتحديداً إلى شارعها التاريخي (شارع الرشيد) الذي مثل بؤرتها السياسية والاجتماعية منذ بدء تأسيس الدولة العراقية، وهناك بدأ هذا الفرع بالتماهي والاندماج في الحياة المدنية، وبناء علاقات مع مجتمع المدينة، في سياق محاولة الانسلاخ الكامل من الجذور التي ترتبطه بخانقين (الهامش).
واتخذ الصراع دوماً شكل علاقات مضطربة غير قادرة على التجذر والاستمرار، فمرة تجده متجسداً في الشخصيات التي كان على توفيق أن يتعامل معها، ولاسيما شخصية زوجته ابنة أسرة (آل القصاب) التي لم تكن امرأة حياته التي يحلم بها، ومرة كان الجنس هو الشكل الغالب على سلوك توفيق إزاء كل النساء اللاتي عرفهن.
وقد ظل الجنس منطقة تابو لم يجرؤ كثير من الكتّاب العراقيين على الخوض فيها, إذ شكلت أشبه ما يكون بحقل الألغام المهدِّد بالانفجار في أية لحظة، وعلى من يخوض غمار هذه المنطقة أن يكون متسلحاً بالجرأة والشجاعة. وهذا ما يبدو جلياً في الرواية التي استطاع مؤلفها أن يصور بأسلوب بالغ الذكاء ذلك الجزء الخفي والمسكوت عنه من العلاقات الإنسانية، بحكم شيوع نوع من القيم التي تمثل جوهر المنظومة القيمية والأخلاقية لدى مجتمعنا الذي يعد من المجتمعات المحافظة، ولاسيما في بدايات تشكله كمجتمع “عراقي”.
فمنذ العتبة الأولى نجد الرواية تحيل إلى شيء من التناقض الذي قد تكون أسبابه اجتماعية وتثير لدى القارئ كثيراً من الأسئلة، كما في تضاعيفها، إذ تدور أحداثها حول شخصية توفيق المثقف – زير النساء الذي تتسم شخصيته بالتعقيد والتناقض-، فمن جهة نراه متزناً عقلانياً في سلوكه العام، ونراه من جهة أخرى يعاني عقداً فرويدية ترتبط بغريزته التي أفرط فيها كثيراً، وقد لمسنا ذلك من تعدد علاقاته الجنسية سواء أكانت مع زوجته (كميلة) أم مع (فتحية) ابنة الفراش الذي استأجر عنده غرفة في منطقة حي العامل، ثم أصبحت لاحقاً خطيبة صديقه غسان، والتي شكّلت بالتعاون مع زوجته العنصر الأساس في تحريك أحداث الرواية، ثم اضطلعت النساء الأخريات، ولاسيما المتزوجات، بدور تكميلي يسهم في تصعيد وتيرة الأحداث وسبكها سبكاً جيداً. وقد نجح التكرلي في بناء شخصياته بتمايز شديد، فكل شخصية كان لها مزاج مختلف وسلوك ينمّ عن جوانب كثيرة من الضعف الإنساني، أو من الظلم الذي قد يقع على كثيرين دون أن تكون لهم القدرة على درئه عن أنفسهم، كما حدث لتوفيق مع والدته وأسرته كلها، وهذا ما يجعل القارئ يتماهى وأحداث الرواية ويتفاعل معها ليصبح بالتالي جزءاً لا يتجزأ منها.
إن الاشتباك الذي تفرضه قراءة هذه الرواية على القارئ يحملنا على التحليق في رحلة لنعيش تفاصيل تلك الحقبة، فنرى فيها بغداد الجميلة كيف تنمو كمدينة تاريخية تستعيد نفسها في إهاب جديد معاصر، وكيف يتلقف أهلها وسائل التطور, كما لو أن الكاتب أراد أن يرافق نشوء الدولة والمجتمع في حركة متسقة، ومثلما نمت الشخصيات والأحداث، كانت المدينة تنمو نمواً خفياً تدريجياً.
بيد أن مسار الأحداث اتخذ، مع اندلاع الحرب العراقية الإيرانية، منحىً من التراجع عبر الانكفاء الذي هيمن على الجو النفسي لتوفيق، الشخصية المحورية في الرواية، وقد حدث ذلك على مستويين: المستوى الاجتماعي، إذ انقطعت علاقاته مع أسرته وأصدقائه القدامى وأسرة فتحية وكل معارفه وحبيباته السابقات، وباتت حياته دورانا مغلقاً بين الغرفة المتقشفة التي استأجرها في حي المربعة، والمقهى حيث يلعب الدومينو مع أصدقاء جدد، يقول توفيق:
“أردت ونجحتُ خلال أسبوع مضى أن أرتبط بهذه الحلقة المفرغة من الساعات والأيام التي تمر دون تغيرات أو تعرجات حادة، ولم يخطر لي أن أزور أحداً من معارفي أو أصدقائي، فلا حاجة لي بهم الآن”.. إنه زمن الحرب، زمن الحياة الرثّة والاندحار غير المرئي لكل شيء ذي قيمة كان موجوداً من قبل.
أما المستوى الآخر للانكفاء فهو المستوى النفسي، فلقد كان يعاني من الوحدة الشديدة رغم أنه يخطو ويتحرك بين أناس يبدون أحياء، وكان هذا الشعور يجعله كائناً منقطعاً عن العالم، مستغنياً عن علاقاته التي واجه فيها خيبات كثيرة، وحتى حين كان يندمج في جلسات المقهى مع أصدقائه الجدد، كان عالمه الداخلي يمور بالأفكار، فهو منخرط ظاهرياً مع (الجماعة)، لكنه في الحقيقة إنسان وحيد مهزوم، كفَّ عن البحث في أسباب تعاسته وأوجاعه، وكان المصير المأساوي لصديقه غسان، خطيب فتحية، الذي أكلته الحرب آخر هزائمه أمام ضراوة الحياة في عالم شديد التوحش.

النسخة الألكترونية من العدد 363

“أون لآين -6-”