قراءة في رواية “سيرة المنتهى” لـ(واسيني الأعرج).. التسكع بين أزقة الروح

1٬317

حربي محسن عبدالله/

“سيرة المنتهى.. عشتها كما اشتهتني” رواية لـ(واسيني الأعرج) الروائي الجزائري وبروفيسور جامعة السوربون من عام 1994 حتى يومنا هذا.

وهو الروائي الحائز على العديد من الجوائز من بلدان عديدة من جائزة قطر العالمية للرواية عام 2005 إلى جائزة الشيخ زايد للآداب عام 2007، ثم جائزة بوردو للصداقة الفرنسية الجزائرية في العام نفسه. ثم جائزة أفضل رواية عربية لسنة 2010. صدرت الرواية التي سنقلب صفحاتها هنا عن كتاب مجلة دبي الثقافية لعام 2014 بجزأين وبما يقارب ثمانمائة صفحة من القطع المتوسط.

سيرة ذاتية

“سيرة المنتهى” بعنوانها الفرعي “عشتها كما اشتهتني” رواية سيرة ذاتية، تأخذ مسارين متلازمين يتدفق فيهما الوعي واللاوعي ليرسم ملامح الوجوه ويخط منحنيات الأزمان المتداخلة. فينتقل بنا بين الحلم واليقظة. ثمة أحداث متخيلة تسير جنباً إلى جنب مع وقائع حقيقية عاشها المؤلف ويرويها عبر هذه السيرة، أي الحياة التي عاشها كما اشتهته، بكل آلامها وآمالها وصدماتها بل وفجائعها، وتيهها، وفقد الأحبة الذي يلازمها، وظلم المقربين وطمعهم عندما تتقلب الأيام ويجور الزمان. يقوده جده إلى برزخ وهو بين الحياة والموت ليرى ويسمع وهو يطير بأجنحة الروح، ملكوت حياته والأحداث التي عاشها وتركت أثرها عميقاً في نفسه، والأشخاص الذين التقى بهم في مفارق الحياة ومفارقاتها. تعلم من جده أن “نكره ونحب من القلب، نرى بالقلب عندما تجف العيون من مائها. القلب يشيخ عند مرضى الروح. تعمّق في نظرك وبعدها اغمض عينيك إذا شئت وسترى..” كتب واسيني في تقديمه للرواية اهداء: إلى ميترا حتى ولو لم يكن لك وجود إلا في كتبي، وأحلامي وفي قلبي تحديداً. أنت الوحيدة التي أستطيع أن أروي لها قصتي، قصتنا، دون أن أخاف. يقول فيه: ميترا الحبيبة… متعبٌ. إنها علامات النهايات.. للقلب سلطانه. اخترتك أنت، من بين مئات الأشخاص والشخصيات، لتكوني أنا، ولأروي لك آخر الحكاية كما تراءت لي قبل أن أضع النور الأخير الذي بقي متقداً في ذاكرتي، في عمق عينيك وقلبك.. استمعي إلي قليلاً لأنها المرة الأخيرة التي أفتح لك فيها لغتي وسري وحواسي وظلال روحي”.

كلب يحمي القطيع

ثمة وقفة عند الذئب الذي حمل لون عيني جده الصفراء، التقاه ذات مرة وهو يرعى الغنم فتى يافعاً وأطعمه من زوادته حتى تحوّل مع مرور الأيام إلى كلب يحمي القطيع ويردّ القاصية من الغنم. ثم يأخذنا في مسيرته الباحثة عن أجوبة لأسئلته التي يواجه بها جده الذي يقوده عبر أزقة الروح ومسالكها الوعرة. يظهر له تارة ويغيب عنه أخرى ليجعله يلتقي بشخصيات لطالما تأثر بفكرها وسيرتها ليجري حواره مباشرة مع الشيخ الأكبر محي الدين ابن العربي تارة ومع دون كيخوته تارة أخرى. يواجه أسئلته المنبثقة من أعماق روحه عن معنى الحياة والأغتراب وجدوى الكلمات مستنيراً بمقولة الشيخ الأكبر (لكلِ بحرهُ فعُم بحرك) فيقول: “…مثلما يصنع الغريب وطناً من اللغة يمكث فيه طويلاً، وطن لا يبكي، ولا يموت، ولايستعمره أحد، وحده يملك مفاتيح السر والشبهة وتخطي العقبات. وعندما يذهب نحو الموت يأخذه معه لأنه وطن لا يقبل اليتم”. بهذه اللغة يصف لنا المؤلف أباه المناضل الذي دفع حياته ثمناً لحرية بلده من الاستعمار. ولأن المصائب لا تأتي فرادى فقد أخاه الأصغر بسبب مرض عضال، فتحول بعدها فجأة إلى رجل انتهى زمن طفولته بعد أن ضحك منه زملاء المدرسة عندما طُلب من جميع الطلاب أن يجلبوا آباءهم فجاء بأمه وعندما سألوه أين أبيك أشار إلى أمه. تحولت الأم إلى أب ومسؤول عن العائلة تدفع عنها الطامعين. لتتوالى صدمات الحياة على واسيني تلك الصدمات التي صلّبتْ عوده وجعلته يؤمن بأن …”كل انسان جميل وسوي يحتاج إلى صدفة عاطفية كبيرة ترجعه إلى صغره الخفي وقوته أيضاً، وإلا سيظل يمارس ما تمارسه الدابة بلا كلل ويذهب إلى النوم بعد الإنتهاء من غرائزه”. من هنا يأتي موقفه من إمرأة ينظر إليها المجتمع كمومس وهو ينظر إليها كضحية لخبث سريرة من أغواها ووعدها بالزواج ثم تخلى عنها بعد حملها وهو ابن عمها، غيرة من حبيب قديم كانت الفتاة الغرة تميل إليه فيتهمها ابن عمها بالباطل، ويذهب الحبيب قرباناً لقيم بالية ويسيل دم براءته غزيراً. فتكون هذه المرأة الموؤدة من أهلها أول حب للمؤلف يتماهى مع قلبها ويتحدث بلسانه قائلاً: “بردانة ياقلبي؟…لأني أسمعك بكلي، ظمني إليك كما ضّم سيدنا المسيح مريم المجدلية. فقط ليقنعها أنها بخير، وإن القتلة انسحبوا ولن يرجموها وأنه يحبها ولن يترك أحداً يلمسها. ضمني حبيبي إليك. البرد بردهم يا قلبي، وخوفهم لم يعد رعباً، لقد أصبح في العظام. شعرت برغبة كبيرة لضمها أكثر خوفاً عليها من تلاش شعرت به وشيكاً أكثر من أية لحظة أخرى. ولم أتوقف عن شدها نحوي في حالة التصاق كلي، إلا عندما سمعت همهمتها الخفية: حبيبي أنا بخير. مازلتُ أشتهي سماعك. شدني ياقلبي إليك كما يشدُ الله قوسه دون أن يكسره”.

بوصلة دون كيخوته

وبرغم كل التجارب المرّة والوقائع القاسية التي مرّ بها صاحب السيرة حتى بلغ الستين من عمره، إلا أنه لم يفقد بوصلة دون كيخوته. يخاطبه قائلاً: “تعلمتُ منك شيئاً مهماً. أن نحب الحياة حتى عندما توصد في أوجهنا كل الأبواب، لأن الأبواب لا توصد جميعها. يوجد دائماً منفذ غير محسوب علينا أن نبحث عنه قبل الاستسلام لكآبة يائسة. السخرية هي الوسيلة العظمى لتجاوز الحد الوهمي للحياة ويقين الناس وحماقاتهم وجهلهم المدقع”.

في الختام يكتب واسيني صفحات تحت عنوان (بعض ما خفي من سيرة عشتها كما اشتهتني) يؤكد فيها أن صخب الكتابة لم ينته برغم أن الصفحات الأخيرة للسيرة انتهت. ويؤكد أيضاً أنها حياة كغيرها من ملايين الحيوات التي عاشها الناس بأشكال مختلفة. تتخللها الأفراح الصغيرة وحالات العنف القاسية. يقول واسيني: “ربما الفرق الأوحد هو أني كتبتُ هذه الحياة جزئياً، بينما هم اكتفوا بعيشها لأنهم لا يمتلكون الأداة التي تسمح بذلك، أو ربما لأسباب معقدة وحدهم يعرفون سرها”.