قراءة في كتاب القيمة والمعيار الشعر بين وعي الثمالة ووعي الدلالة

478

حربي محسن عبد الله /

الشعر ابتكار يستبيح الكلمات ليشكّل منها عالما من الصور الجديدة، لا قفزاً على غريب الألفاظ ولا رقصا على كلمات المنجد الذي لا يُنجد إلا لماما. بل أتجرأ وأقول إنَّ من يعتمد من الشعراء على المنجد، لن يجده سوى مطيّة من لا حظ له في الصور المبتكرة لافتقاده الخيال الخلّاق الذي له أجنحة لا يطير بها مع سرب، بل ينطلقُ وحيداً، لأنَّه يستعيدُ صلة قربى بشغف الصقور التي تحلّق في الأعالي وحيدة.
في المخيلة الخلّاقة يتجلى التفرّد بأبهى صوره وينطلق سحر الكلمات بلا تعقيد متكلّف ولا تبسيط متزلّف ولا مجانية في الاختيار.

القيمة والمعيار
بين يدينا مساهمة غاية في الأهمية، والروعة والسلاسة، التي تمتّع بها الكاتب والناقد الراحل (يوسف سامي اليوسف)، من بين مجموعة مساهمات أغنت المكتبة العربية في مجالات أدبية عديدة لما فيها من جديد ومبتكر ولافت لكل مهتم بالفنون والآداب بجملتها. اخترت من هذه المساهمات في هذه العجالة، كتابه القيّم (القيمة والمعيار – مساهمة في نظرية الشعر) الصادر عن دار كنعان في دمشق. نحاول عبر هذه السطور أن نستلهم ما أدلى به من آراء ووجهة نظره في ما يخص الشعر.
في مدخل الكتاب يقف الكاتب أمام الدراسات الأدبية منذ أوائل القرن العشرين، والكم الكبير منها، التي أنتجها العالم العربي، ليشير إلى تميّز بعضها بقدرتها على توضيح النصوص، والكشف عن مزايا العصور الأدبية وسماتها الفنية العامة ولكنَّه يعد معظم هذه الدراسات عبارة عن نقود من النمط التطبيقي، وأن الكتابات المتخصصة بنظرية الأدب، أو بالتعرف إلى ماهية هذا الجنس الأدبي أو ذاك، قليلة الكمية وضئيلة القيمة في آن واحد. ولعل مسألة القيمة ومعيار القيمة أن تكون واحدة من أبرز القضايا الأدبية وأحقها بالبحث والتنظير، إذ العقل البشري معياري بطبعه، أي بحكم ماهيته نفسها. ولكن هذه الغزارة في إنتاج النصوص الأدبية لم يألفها العالم العربي من قبل بتاتاً. وفي رأي “يوسف سامي اليوسف” أن الطبيعة ليستْ سخية إلى هذا الحد. وبما أن الحاجة ماسة إلى شيء من الجهد يبذل في مضمار التنظير للأدب، ولا سيما للشعر، الذي ما زال حتى اليوم الإيقاع الثقافي الأول في مضمار اللغة العربية، الذي يعتقد الكاتب بأن نقاده الأكفاء، في هذه الأيام، غير موجودين إلا بالصدفة وحسب. ومساهمة منه كتب لنا أربع مقالات بين دفتي الكتاب الذي بين أيدينا تسهم في الاستجابة للأسئلة الملحة في هذا الصدد. الأولى جاءت بعنوان “الشعر وسؤال القيمة”، والثانية بعنوان “الشعر والذائقة”، والثالثة “وظيفة الشعر”، والأخيرة جاءت بعنوان “الشعر والحساسية”.

التأثر والالتقاء
يؤكد الكاتب في مقالته الأولى على أن: “غاية القصيدة هي معيارها نفسه، وليس سواه، أقصد إنتاج شعور أصلي، أو عميق. وهذا قول من شأنه أن يتماهى تماماً مع اشتقاق كلمة “الشعر” في اللغة العربية، إذ من الواضح بغير لبس أن الشعر هو الشعور دون سواه، فكلتا اللفظتين من أصل واحد، وهو “شعر” التي تنطوي على الدقة، لأن الشعر “بفتح الشين” قد صدر عن هذا الثلاثي نفسه. وهذا هو الشكل الآخر للقول بأن معيار القصيدة هو قدرتها على البلوغ إلى سويداء الفؤاد، دون أي ريث أو إبطاء”. أما الخيال فهو ما انبثق منه الشعر الحديث، بل حتى لقد تطرف في هذا المنزع بحيث خرج الشعر كما يقول الكاتب من موقع الاستواء إلى توثين الشكل. ولا مراء في أن الخيال برأيه “برهة ماهوية في كل شعر، ولكنه لا قيمة له إلا إذا جاء موحياً، نائياً عن التكلف وبريئاً من الاصطناع. وأما إحلال التهويم محل الخيال الخلاّق فلا يسعه أن يكون سوى صفة انحطاط لا يملك البتة أن يموّه نفسه، أو ينطلي إلا على أولئك الذين لا خبرة لهم بالشعر ولا بالتاريخ”. في المقالة الثانية يؤكد الكاتب أن الذائقة هي الانفعال (التأثر، الالتقاء)، بالوسيم، أو مقاربة المناسب، أو الموائم، بطريقة من شأنها أن تحذف كل فرق بين الذات أي بين الذائقة، والمحتوى الذي يُذاق، إذ لا بد من مضمون تمتلئ به الداخلية، وإلا فلن تكون سوى شبح أو وهم أو خواء مفرّغ من كل ما يملأ أو يعني. كما أنَّ الكاتب يتماهى مع قول المتصوفة “من ذاق عرف” أو كما قال الشيخ الأكبر ابن عربي “الذوق أول مبادئ التجلي”. أما في مقالته عن وظيفة الشعر فيؤكد أن مملكة الشعر هي مملكة الرعش والاختلاج، وهي فاعلية متعالية من شأنها أن تكمل النقص الذي يعتور الحياة اليومية غير القادرة البتة على إشباع روح الإنسان. ويتبنى ما جاء به عبد القادر الجرجاني ويعده أول من أوحى من خلال كتابيه “أسرار البلاغة” و “دلائل الإعجاز” بأن الشعر هو استجابة النفس لنداء اللغة، أو قل العلو اللغوي الذي من شأنه أن يمكّن الروح من الاتصال بينابيع الحيوية الداخلية والخصوبة الكونية التي تنبثق منها الحياة.

الاستدلال الوجداني
أما في المقالة الأخيرة وموضوع الحساسية فيشدد الكاتب على أن فعل التحسس، هو وحده القادر على استنباط الدلالة والفحوى من الأشياء الخارجية، فالحساسية هي الملاط الذي يملك، بفضل ما أوتي من حرارة، أن يلحم الداخل بالخارج، في وحدة لا تقبل الانحلال. ولهذا، فإنَّ قيمة كل شعر (أو أدب) جيد لا مصدر لها سوى زخم التحسس وقدرته على استخلاص اللباب من كل ما هو برسم الاستدلال الوجداني الذي لا يعنو لمثنوية الخطأ والصواب، وذلك لأن الحساسية، أو المعرفة الوجدانية، محقّة على الدوام، ومن شأن هذه السمة أن تجعل منها السجية الأنفس بين سجايا الباطن كلها.
في خاتمة الكتاب يتوقف “يوسف سامي اليوسف” عند وظيفة الناقد، وفقاً لما تقدم فيقول: (إنها إصدار حكم القيمة الناضج، أو التمييز بين النفيس والخسيس، أو الفصل بين الماس والزجاج. ولعل في ميسور المرء أن يجزم بان مثل هذا الفعل هو نتاج لسمة ماهوية في العقل نفسه، إذ لا كمال بغير القيمة بتاتاً، بل إن الكمال نفسه هو القيمة التي هي غاية كل قيمة أخرى. أما استبار الفحوى المستتر، فهو على شدة أهميته، لا يحتل إلا المرتبة الثانية).