قعيد الأسطورة وتعدّد الدلالات في رواية “الماء العاشق”

929

علي لفته سعيد /

أنتج الروائي المصري أحمد فضل شبلول في روايته (الماء العاشق) رواية غرائبية تحاول فلسفة الواقع من خلال أسطرة الأحداث ومن خلال تبسيط الواقع للإتيان بالأسطورة او من خلال جمع الحالين لإنتاج قصدية لها مدلول لا يخلو من الوطنية والانبهار بالتاريخ الخاص.
إن الفكرة التي استلّها شبلول هي وحدها من تنتج له رواية قائمة على ثلاثة مرتكزات قوية، أولها: الماء بكل انزياحاته التي أعطاها الروائي لتكون عملية استمكان وقدرة على المناورة. والثاني: استحضار التاريخ وربطه مع الحكاية/ الفكرة/ الاستنباط.. والمرتكز الثالث: طريقة المناورة وقيادة الفكرة وفق متن سردي متصاعد بدأ من لحظة الاستهلال وانتهى بخاتمة الرواية، حيث يبقى الزمن مفتوحاً مثلما يبقى التأويل مقصوداً مثلما تبقى القصدية عالقة في تلابيب الغائية التي استلت من أجلها الفكرة، فإن مجموع القصديات أنتجت لنا انزياحات عديدة للماء ليس بوصفه هو الحياة وبدونه لا حياة، بل بوصفه مرتبطاً بتلك الكينونة الحضارية التي بدأت فيها الحياة او بدأت من خلاله صناعة الحياة، لأن خلق الوجود لا يكتمل او لم يكتمل قبل إيجاد الماء، فتنوّع في الرواية وأخذ أبعاداً أخرى، فهو الماء الذي جعل كل شيء حياً، وهو الدليل لربط الماضي بالحاضر، وهو القصيدة التي تمنح الشعر طاقته وزهو الخريطة التي تمشي من خلالها الفكرة، وهو الوحي الذي يعطي المعلومة لكي يستمر المعنى.
العنوان والاستهلال
إن أماكن الصراع في الرواية تتفرع لنحو 42 عنواناً فرعياً ضمتها 235 صفحة. أول هذه العنوانات هو المرتكز الأساس الذي يبدأ به الاتصال مع العنوان الرئيس الذي يشبه مدينة متكاملة. والعنوانات هي أبواب الأحياء السكنية التي تقع في المدينة للكشف عن حيواتها المتعددة.. (الماء خليلي)، وبه يتم اكتشاف التغريب الذي سيحصل وتمشي على موسيقاه العملية التدوينية للأخذ بيد الفكرة الى سواحل السرد وعدم الاقتصار على الحكاية، وهو ما جعل الرواية تأخذ البعد التشويقي كمنطقة اولى في تصاعدية الهرم السردي.. فالرواية تبدأ بمستوى إخباري له علاقة بتلك الرمزية التي أريد لها أن تكون في ارتباط دائم بين ثلاث حركات سردية.. الأولى: الماء ذاته في تنوعاته وتدرجاته وشروحاته وكونه المحرك الأساس الذي بث فيه الروائي الروح.. والحركة الثانية: هي الشخصية الرئيسة كراوٍ وما يرتبط به من شخصيات أخرى وخاصة (هدى) التي تعدّ هي الشخصية الرئيسة في المنظور الحكائي وليس الروائي.. أما الحركة الثالثة: فهي الحركة الانتقالية ما بين الماضي والحاضر، إذ تنشطر هذه الحركة الى ثلاث فعاليات حكائية. الأولى: هي فعالية الاستهلال الذي يحكي الخطوة الأولى لكي تتصاعد الحبكة. والثانية: هي الفعالية المرتبطة بالاستهلال كعنوان رئيس ومن ثم العنوانات الفرعية المرتبطة ارتباطاً وثيقاً بالماء.. والفعالية الثالثة: هي الارتباط الدلالي ما بين الاستهلال والعناصر التثويرية الأخرى التي تعطي أهمية المشاكسة الفاعلة للقدرة على الإتيان باللامعقول ليكون معقولاً.
إن هذا الاستهلال الأولي تأخذه اللغة البسيطة غير الجائعة الى التعالي على فنطازية الفكرة أو غرائبيتها هي من تبدأ به العتبات الأخرى في الواحة السردية والحكائية.. فمن خلاله يبدأ التمدّد العمودي والأفقي واستخدام المستويات الأخرى سواء تلك المتعلقة بالمستوى التصويري في إعطاء المكان دفعة قوية أو المستوى القصدي.. او المستوى التأويلي الذي يراد له ربط كل ما يمكن حصاده من الرواية.. أو المستوى الفلسفي الذي يبرز بين والحين والآخر كمحمول غائي. في حين يكون المستوى الإخباري هو المستوى الأول في الروي الذي يربط الحالتين الحكائية والسردية معا.
اللغة وطريقة الروي
اللغة في الرواية لا تتعب نفسها، فهي تأخذ حالتين من التدوين.. الأولى على لسان الراوي والثانية على لسان فكرته وما يستبطنه من غايات وقصديات، وكلها تصب في مصلحة تقشير العنوان ومصلحة الحبكة الدرامية التي تسعى لها الرواية منذ البدء.. فاللغة تأخذ طريقها لرسم العلاقة الفنطازية او الغرائبية الخاصة من خلال زاوية الرؤية ما بين الراوي والماء وبالتالي ما بين الروائي والمكان.. وحاصل جمعهما يعطي نتيجة اللغة التي تجمع المكان بالتاريخ وعلاقته بالمتن السردي.. وهذه العلاقة هي علاقة جدلية قارّة بين الماء والحياة والى الربط بالآخر التراب لتكتمل الصورة.. الإسكندرية / مصر.. والتاريخ الحضارة/ الأصل/ كليوباترا، على اعتبار أنها تمثل الغاية والهدف والعنوان ومن ثم الربط ليس كأسطرة للواقع بل جلب الأسطورة الى الواقع وجعلها واقعية ليمنح الدهشة والترقب والمواصلة في التلقي والبحث عن الشبكة العلاقاتية والمدلولات الإبهارية، ومن خلال طريقة الروي والعلاقة مع اللغة، فأماط الروائي اللثام عما يريد الراوي من بثّه من علّة ومعلول وسبب ومسبّب لكل ما يعتقده المتلقي انه غرائبي غير حقيقي.
شخصنة الفعاليات
الرواية تعج بما يمكن الاصطلاح عليه تقعيد الأسطورة الى الواقع، وليس أسطرة الواقع ليكون أسطورياً.. فكل ما تحفل به الرواية هو واقعي بدلالات الأسماء والمدن والأماكن التاريخية والتراثية والشروحات العديدة والاستبيانات الكثيرة والمعلومات الثابتة التي جعلت المتلقي يقول إن الروائي ألبس راويه كل ما يعرفه عن الأزمان والأحداث والمرويات المتعلقة بالرواية.. فالماء هنا شخص بدأ بالحديث معه من الاستهلال وأسماه (الماء العاشق) الذي لا يكون إلا في الأعالي ولا يحبس نفسه في الأنابيب.. لأنه ماء حر.