قم فالبلاد على شفا الطوفان عبدالغني الخليلي.. الأديب الذي كابد الغربة وظلم الطغاة

297

محمـد الكحط/

الحديث‭ ‬عن‭ ‬الأديب‭ ‬الفقيد‭ ‬عبد‭ ‬الغني‭ ‬الخليلي‭ ‬ذو‭ ‬شجون،‭ ‬فهو‭ ‬كنز‭ ‬فقدناه،‭ ‬لكنه‭ ‬ترك‭ ‬أثراً‭ ‬وإرثاً‭ ‬كبيرين‭ ‬في‭ ‬المجالين‭ ‬الإنساني‭ ‬والثقافي،‭ ‬إنه‭ ‬ابن‭  ‬النجف‭ ‬التي‭ ‬ولد‭ ‬على‭ ‬أديمها‭ ‬عام‭ ‬1925،‭ ‬وفيها‭ ‬نهل‭ ‬من‭ ‬منابع‭ ‬الثقافة،‭ ‬حين‭ ‬كانت‭ ‬النجف‭ ‬–آنذاك‭- ‬في‭ ‬خضم‭ ‬حركة‭ ‬ثقافية‭ ‬زاهية،‭ ‬حيث‭ ‬أمضى‭ ‬طفولته‭ ‬بين‭ ‬أفياء‭ ‬تلك‭ ‬البساتين‭ ‬بصحبة‭ ‬مجموعة‭ ‬من‭ ‬أدباء‭ ‬المدينة،‭ ‬كان‭ ‬من‭ ‬بينهم‭ ‬خال‭ ‬أبي‭ ‬الميرزا‭ ‬محمود‭ ‬الخليلي،‭ ‬والشيخ‭ ‬جواد‭ ‬الشبيبي،‭ ‬وحيدر‭ ‬الحلي،‭ ‬وجعفر‭ ‬الحلي،‭ ‬ورضا‭ ‬الموسوي،‭ ‬وباقر‭ ‬الهندي،‭ ‬والشيخ‭ ‬هادي‭ ‬كاشف‭ ‬الغطاء،‭ ‬وغيرهم‭.‬

في‭ ‬أواسط‭ ‬الأربعينيات‭ ‬غادر‭ ‬النجف‭ ‬إلى‭ ‬بغداد،‭ ‬حيث‭ ‬مارس‭ ‬مهنة‭ ‬التعليم‭ ‬في‭ ‬مدرسة‭ ‬بالكاظمية،‭ ‬لكنه‭ ‬سرعان‭ ‬ما‭ ‬فصل‭ ‬منها‭ ‬بسبب‭ ‬نشاطه‭ ‬السياسي‭ ‬وعاد‭ ‬إلى‭ ‬النجف،‭ ‬ليعود‭ ‬بعد‭ ‬سنوات‭ ‬إلى‭ ‬بغداد‭ ‬ليعمل‭ ‬في‭ ‬مطبعة‭ ‬الزهراء،‭ ‬التي‭ ‬التي‭ ‬كانت‭ ‬ملكاً‭ ‬لعمه،‭ ‬بعدها‭ ‬بعامين‭ ‬انتقل‭ ‬للعمل‭ ‬في‭ ‬البنك‭ ‬اللبناني‭ ‬المتحد،‭ ‬ثم‭ ‬في‭ ‬مصرف‭ ‬الرافدين‭ ‬ببغداد‭ ‬حتى‭ ‬عام‭ ‬1976،‭ ‬وبعد‭ ‬اثنين‭ ‬وعشرين‭ ‬عاماً‭ ‬من‭ ‬عمله‭ ‬في‭ ‬البنك‭ ‬أحال‭ ‬الخليلي‭ ‬نفسه‭ ‬الى‭ ‬التقاعد‭ ‬ليتفرغ‭ ‬للكتابة‭.‬

‭ ‬تهجير‭ ‬ظالم‭ ‬

بدأ‭ ‬عبد‭ ‬الغني‭ ‬الخليلي‭ ‬مرحلة‭ ‬جديدة‭ ‬من‭ ‬الإبداع‭ ‬دوّن‭ ‬فيها‭ ‬ذكرياته،‭ ‬لحين‭ ‬تهجيره‭ ‬وعائلته،‭ ‬التي‭ ‬يقول‭ ‬عنها‭: ((‬في‭ ‬أواخر‭ ‬السبعينيات‭ ‬بلغ‭ ‬ما‭ ‬كتبته‭ ‬ألفي‭ ‬صفحة‭. ‬ثم‭ ‬جاءت‭ ‬عملية‭ ‬التهجير‭ ‬الظالمة‭ ‬فاستولى‭ ‬الجلاوزة‭ ‬على‭ ‬البيت‭ ‬وما‭ ‬فيه‭ ‬من‭ ‬كتب‭ ‬ومن‭ ‬ذكريات‭ ‬مدونة‭ ‬على‭ ‬الورق‭)).‬

كان‭ ‬الخليلي‭ ‬مولعاً‭ ‬منذ‭ ‬صغره‭ ‬بكتابة‭ ‬الرسائل،‭ ‬وأجاد‭ ‬فنها،‭ ‬فكان‭ ‬يراسل‭ ‬شخصيات‭ ‬ثقافية‭ ‬وأدبية‭ ‬عربية‭ ‬وعراقية،‭ ‬منهم‭: ‬الشاعرة‭ ‬مي‭ ‬زيادة،‭ ‬وبشارة‭ ‬الخوري،‭ ‬ومارون‭ ‬عبود،‭ ‬وبدوي‭ ‬الجبل،‭ ‬والحبوبي،‭ ‬والجعفري،‭ ‬والوائلي،‭ ‬والهاشمي،‭ ‬وغيرهم‭. ‬وكان‭ ‬يحتفظ‭ ‬بصندوق‭ ‬مليء‭ ‬بتلك‭ ‬الرسائل‭.‬

وكما‭ ‬معروف‭ ‬عنه‭ ‬أنه‭ ‬نظم‭ ‬الشعر‭ ‬وهو‭ ‬دون‭ ‬العشرين‭ ‬من‭ ‬عمره،‭ ‬ونشر‭ ‬العديد‭ ‬من‭ ‬قصائده‭ ‬في‭ ‬وقت‭ ‬مبكر،‭ ‬وقد‭ ‬درس‭ ‬تراث‭ ‬ابن‭ ‬عربي‭ ‬والمتنبي‭ ‬وحافظ‭ ‬ابراهيم،‭ ‬فهو‭ ‬ابن‭ ‬اسرة‭ ‬الخليلي‭ ‬المعروفة،‭ ‬ومن‭ ‬هذه‭ ‬العائلة‭ ‬القاص‭ ‬جعفر‭ ‬الخليلي‭ ‬والشاعر‭ ‬عباس‭ ‬الخليلي‭ ‬وغيرهما‭ ‬من‭ ‬الرموز‭ ‬الثقافية‭. ‬

مع‭ ‬الجواهري

ارتبط‭ ‬الخليلي‭ ‬ثقافياً‭ ‬مع‭ ‬الحركة‭ ‬الوطنية‭ ‬العراقية‭ ‬منذ‭ ‬صباه،‭ ‬حاله‭ ‬حال‭ ‬أبناء‭ ‬جيله،‭ ‬فكتب‭ ‬العديد‭ ‬من‭ ‬المواد‭ ‬في‭ ‬مجلة‭ “‬الثقافة‭ ‬الجديدة‭” ‬التي‭ ‬كانت‭ ‬منبراً‭ ‬فكرياً‭ ‬مهماً،‭ ‬فقد‭ ‬أحب‭ ‬الشعر‭ ‬مبكراً،‭ ‬بل‭ ‬قرأ‭ ‬لأهم‭ ‬الشعراء،‭ ‬فقد‭ ‬قرأ‭ ‬للمتنبي‭ ‬وأحب‭ ‬ابن‭ ‬عربي،‭ ‬ويقال‭ ‬إنه‭ ‬حفظ‭ ‬ديواناً‭ ‬كاملاً‭ ‬للجواهري،‭ ‬إذ‭ ‬كانت‭ ‬تربطهما‭ ‬معاً‭ ‬علاقة‭ ‬خاصة،‭ ‬عن‭ ‬هذه‭ ‬العلاقة‭ ‬يقول‭:- ((‬علاقتي‭ ‬بالجواهري‭ ‬قديمة،‭ ‬فعائلتانا‭ ‬كانتا‭ ‬متجاورتين،‭ ‬أذكر‭ ‬محمد‭ ‬الجواهري‭ ‬عندما‭ ‬كنت‭ ‬في‭ ‬الثانية‭ ‬عشرة‭ ‬من‭ ‬عمري،‭ ‬كنت‭ ‬أزور‭ ‬عمي‭ ‬الطبيب‭ ‬محمد‭ ‬الخليلي،‭ ‬حيث‭ ‬كان‭ ‬يقيم‭ ‬في‭ ‬الكوفة،‭ ‬وكان‭ ‬الجواهري‭ ‬يعمل‭ ‬أستاذاً‭ ‬للأدب‭ ‬العربي‭ ‬في‭ ‬ثانوية‭ ‬النجف،‭ ‬وكان‭ ‬بيت‭ ‬عمي‭ ‬مرتاد‭ ‬الأدباء‭ ‬والشعراء‭ ‬النجفيين‭ ‬وغيرهم‭)).‬

وقد‭ ‬كتب‭ ‬الشاعر‭ ‬محمد‭ ‬مهدي‭ ‬الجواهري‭ ‬قصيدة‭ ‬خصه‭ ‬بها‭ ‬وهي‭ ‬منشورة‭ ‬في‭ ‬المجلد‭ ‬الرابع‭ ‬من‭ ‬ديوانه،‭ ‬وكانت‭ ‬قد‭ ‬نشرت‭ ‬في‭ ‬جريدة‭ “‬اليوم‭” ‬اللبنانية‭ ‬بتاريخ‭ ‬27‭/‬2‭/‬1968،‭ ‬وفيها‭ ‬يقول‭ ‬الجواهري‭:‬

‭((‬أبا‭ ‬الفرسان‭ ‬إنك‭ ‬في‭ ‬ضميري‭   

وذاك‭ ‬أعز‭ ‬دار‭ ‬للحبيبِ

‭ ‬وبي‭ ‬شوق‭ ‬إليك‭ ‬يهز‭ ‬قلبي‭ 

ويعصره‭ ‬فيخفق‭ ‬بالوجيبِ‭ ‬

وذكرك‭ ‬في‭ ‬فمي‭ ‬نغم‭ ‬مصفى‭ ‬

يرتّل‭ ‬في‭ ‬الشروق‭ ‬وفي‭ ‬الغروبِ‭ ‬

سلام‭ ‬الله‭ ‬يعبق‭ ‬بالطيوب‭ ‬

على‭ ‬ربعِ‭ ‬تحل‭ ‬به‭ ‬خصيبِ‭ ‬

ثري‭ ‬بالمفاخر‭ ‬والمزايا‭ ‬

توارثها‭ ‬نجيب‭ ‬عن‭ ‬نجيب‭ ‬

‭ ‬أبا‭ ‬الفرسان‭ ‬إن‭ ‬عقّت‭ ‬ديار‭ ‬

عقدت‭ ‬بها‭ ‬شبابي‭ ‬بالمشيب‭ ‬

وذوّبت‭ ‬الضلوع‭ ‬على‭ ‬ثراها‭ ‬

ولم‭ ‬أطلب‭ ‬بها‭ ‬أجر‭ ‬المذيب

‭ ‬فلا‭ ‬عجب‭ ‬فقلبي‭ ‬ضاق‭ ‬ذرعاً‭ ‬

بخير‭ ‬الناس‭ ‬أحمد‭ ‬والحبيب

‭ ‬فذياك‭ ‬استبيح‭ ‬دماً‭ ‬وعِرضاً‭ ‬

وذاك‭ ‬قضى‭ ‬بها‭ ‬نحب‭ ‬الغريب

‭ ‬وسيم‭ ‬البحتري‭ ‬الهون‭ ‬فيها‭ ‬

وغصّ‭ ‬بحسرة‭ ‬الترب‭ ‬الحريب‭ ‬

على‭ ‬حين‭ ‬استباح‭ ‬الغرّ‭ ‬فيها‭ ‬

بقايا‭ ‬السيف‭ ‬والسلب‭ ‬الجليب

‭ ‬أبا‭ ‬الفرسان‭ ‬لاعجب‭ ‬بأنا‭ ‬

نؤدي‭ ‬فدية‭ ‬البلد‭ ‬العجيب‭)). ‬

الظلم‭ ‬العظيم

لقد‭ ‬كان‭ ‬لجريمة‭ ‬التهجير‭ ‬السيئة‭ ‬الذكر‭ ‬إلى‭ ‬إيران،‭ ‬بحجة‭ ‬التبعية‭ ‬الإيرانية،‭ ‬أثرها‭ ‬ووقعها‭ ‬الكبيرين‭ ‬على‭ ‬حياته،‭ ‬وصفها‭ ‬في‭ ‬كتاباته‭ ‬لاحقاً،‭ ‬ولربما‭ ‬أشد‭ ‬ما‭ ‬يحزننا،‭ ‬ونحن‭ ‬نقرأ،‭ ‬وصفه‭ ‬مسيره‭ ‬بين‭ ‬الأدغال‭ ‬حاملاً‭ ‬أمه‭ ‬على‭ ‬ظهره،‭ ‬وكيف‭ ‬كانت‭ ‬تعاني‭ ‬وإياه‭ ‬من‭ ‬الجوع‭ ‬والعطش،‭ ‬سوى‭ ‬جرعات‭ ‬من‭ ‬ماء‭ ‬المطر،‭ ‬فيقول‭: ((‬كنت‭ ‬أغرفه‭ ‬لها‭ ‬بيدي‭ ‬فتشرب‭.. ‬وبينما‭ ‬كنت‭ ‬أبحث‭ ‬لها‭ ‬عن‭ ‬أعشاب‭ ‬ندية‭ ‬في‭ ‬مساكب‭ ‬الخضرة‭ ‬يمكنها‭ ‬أن‭ ‬تسد‭ ‬بها‭ ‬جوعها،‭ ‬عثرت‭ ‬على‭ ‬الخباز‭ ‬البري‭. ‬وحين‭ ‬عرفت‭ ‬أنها‭ ‬تعجز‭ ‬عن‭ ‬مضغه،‭ ‬رحت‭ ‬أمضغه‭ ‬لها‭ ‬وأدسه‭ ‬في‭ ‬فمها‭)). ‬هذه‭ ‬صورة‭ ‬واحدة‭ ‬من‭ ‬ملايين‭ ‬الصور‭ ‬التي‭ ‬تعكس‭ ‬معاناة‭ ‬آلاف‭ ‬العراقيين‭ ‬الذين‭ ‬هجّرهم‭ ‬نظام‭ ‬صدام‭ ‬المجرم‭ ‬عنوة‭ ‬بدون‭ ‬ذنب‭. ‬ولم‭ ‬تتحمل‭ ‬أمه‭ ‬تلك‭ ‬الظروف‭ ‬فتوفيت‭ ‬ودفنت‭ ‬بعيداً‭ ‬عن‭ ‬مدينتها‭ ‬النجف‭.‬

وكتب‭ ‬عنها‭ ‬رسالة‭ ‬رثاء‭ ‬مؤثرة‭ ‬بعنوان‭ ((‬إلى‭ ‬أم‭ ‬عبد‭ ‬الغني‭))‬،‭ ‬كما‭ ‬كانت‭ ‬تسمى،‭ ‬وهذا‭ ‬الرثاء‭ ‬خطه‭ ‬فيما‭ ‬بعد‭ ‬الشاعر‭ ‬والخطاط‭ ‬الفقيد‭ ‬محمد‭ ‬سعيد‭ ‬الصكار‭ ‬بخطٍ‭ ‬جميل‭.‬

الهجرة‭ ‬الثانية

بعد‭ ‬معاناة‭ ‬طويلة‭ ‬في‭ ‬إيران،‭ ‬شدّ‭ ‬عبد‭ ‬الغني‭ ‬الخليلي‭ ‬الرحال‭ ‬واختار‭ ‬العيش‭ ‬في‭ ‬السويد‭ ‬في‭ ‬آخر‭ ‬أيام‭ ‬حياته‭. ‬وفي‭ ‬ستوكهولم،‭ ‬حيث‭ ‬مقر‭ ‬إقامته،‭ ‬كان‭ ‬له‭ ‬نشاط‭ ‬اجتماعي‭ ‬وإبداعي‭ ‬أدبي،‭ ‬محوره‭ ‬الأساسي‭ ‬مراسلاته‭ ‬الأدبية‭ ‬من‭ ‬خلال‭ ‬علاقاته‭ ‬المتشعبة‭ ‬مع‭ ‬العديد‭ ‬من‭ ‬الرموز‭ ‬الأدبية‭ ‬والثقافية‭ ‬العراقية،‭ ‬لكنه‭ ‬لم‭ ‬يكن‭ ‬يفكر‭ ‬في‭ ‬التأليف‭ ‬والنشر‭ ‬لولا‭ ‬التشجيع‭ ‬والحث‭ ‬من‭ ‬قبل‭ ‬بعض‭ ‬زملائه،‭ ‬فقد‭ ‬خضع‭ ‬في‭ ‬الأخير‭ ‬لرغباتهم‭ ‬فقام‭ ‬بجمع‭ ‬بعض‭ ‬نتاجاته‭ ‬وأصدر‭ ‬منها‭ ‬الجزء‭ ‬الأول‭ ‬من‭ ‬كتابه‭ ((‬سلاماً‭ ‬يا‭ ‬غريب‭))‬،‭ ‬ومن‭ ‬ثم‭ ‬نشرت‭ ‬له‭ “‬دار‭ ‬المدى‭” ‬الجزء‭ ‬الثاني‭. ‬كما‭ ‬كان‭ ‬متابعاً‭ ‬جيداً‭ ‬للنتاجات‭ ‬والنشاطات‭ ‬الثقافية‭ ‬في‭ ‬السويد،‭ ‬حيث‭ ‬كانت‭ ‬الأوضاع‭ ‬في‭ ‬العراق‭ ‬حافلة‭ ‬بالأحداث‭ ‬السياسية،‭ ‬وكان‭ ‬يسهم‭ ‬بالحضور‭ ‬وبث‭ ‬روح‭ ‬التفاؤل‭ ‬والأمل‭ ‬بين‭ ‬الجميع‭.‬

في‭ ‬إحدى‭ ‬رسائله‭ ‬الى‭ ‬الأستاذ‭ ‬ثائر‭ ‬صالح،‭ ‬صديق‭ ‬ابنه‭ ‬فارس،‭ ‬نشعر‭ ‬مرارة‭ ‬الغربة‭ ‬حيث‭ ‬يقارنها‭ ‬بالأيام‭ ‬المضنية‭ ‬في‭ ‬العراق‭. ‬

يقول‭ (‬أمس‭ ‬مررت‭ – ‬وأنا‭ ‬في‭ ‬طريقي‭ ‬الى‭ ‬البريد‭ – ‬بحي‭ ‬قديم‭ ‬مهجور،‭ ‬يسرح‭ ‬الحمام‭ ‬على‭ ‬أرضه،‭ ‬مطمئناً،‭ ‬فترامى‭ ‬إليَّ‭ ‬صوت‭ ‬عجلات‭ ‬مطبعة‭ ‬تدور،‭ ‬وكنت‭ ‬قد‭ ‬ألفت‭ ‬هذا‭ ‬الصوت‭ ‬منذ‭ ‬صغري،‭ ‬فوقفت‭ ‬أستزيد‭ ‬منه،‭ ‬ففي‭ ‬صداه‭ ‬تسكن‭ ‬طفولتي،‭ ‬وذكريات‭ ‬مجلات‭ ‬نجفية‭ ‬كانت‭ ‬تطبع‭ ‬في‭ ‬مثل‭ ‬هذه‭ ‬المطبعة،‭ ‬وكنت‭ ‬مولعاً‭ ‬بقراءتها‭. ‬كم‭ ‬تمنيت،‭ ‬لو‭ ‬يتيح‭ ‬ليَ‭ ‬صاحب‭ ‬هذه‭ ‬المطبعة‭ ‬فرصة‭ ‬العمل‭ ‬عنده‭ ‬مجانا‭ ‬ولو‭ ‬لساعات‭ ‬قليلة،‭ ‬لأعيش‭ ‬تلك‭ ‬الأيام‭ ‬التي‭ ‬قضيتها‭ ‬عاملاً‭ ‬في‭ ‬إحدى‭ ‬مطابع‭ ‬النجف،‭ ‬وأنا‭ ‬في‭ ‬الثانية‭ ‬عشرة‭ ‬من‭ ‬عمري،‭ ‬وفي‭ ‬هذا‭ ‬المنفى‭ ‬البعيد‭ ‬صرت‭ ‬أحلم‭ ‬بذكريات‭ ‬ذلك‭ ‬العمر‭ ‬وأنا‭ ‬كنت‭ ‬قد‭ ‬شقيت‭ ‬به‭).‬

كتب‭ ‬له‭ ‬الشاعر‭ ‬العراقي‭ ‬خلدون‭ ‬جاويد‭ ‬هذه‭ ‬الأبيات‭ ‬،‭ ‬إذ‭ ‬ربطتهما‭ ‬علاقة‭ ‬صداقة‭ ‬طيبة‭:‬

قم‭ ‬ياغني‭ ‬الليل‭ ‬زائل‭ ‬

والسجن‭ ‬حُطم‭ ‬والسلاسل‭ ‬

ولربما‭ ‬المنفى‭ ‬الكسير‭ ‬

إلى‭ ‬المزار‭ ‬الأُم‭ ‬راحل‭ ‬

قم‭ ‬ياغني‭ ‬لعلنا‭ ‬

متنسمين‭ ‬هواء‭ ‬بابل‭ ‬

وعسى‭ ‬الجنائن‭ ‬أورقت‭ ‬فرحاً‭ ‬

وغرّدت‭ ‬البلابل‭ ‬

قم‭ ‬ياغني‭ ‬لنحتفي‭ ‬

بك‭ ‬كالأزاهر‭ ‬بالجداول‭ ‬

قم‭ ‬فالبلاد‭ ‬على‭ ‬شفا‭ ‬الطوفان‭ ‬

تجرف‭ ‬كل‭ ‬قاتل‭ ‬

قم‭ ‬ياغني‭ ‬لنغتني‭ ‬بك‭ ‬

بالمنابع‭ ‬بالمناهل‭ ‬

يابن‭ ‬الفرات‭ ‬الفذ‭ ‬لا‭ ‬

تذبل‭ ‬فما‭ ‬الجوري‭ ‬ذابل‭ ‬

يازهرة‭ ‬النجف‭ ‬المنيف‭ ‬

أريجك‭ ‬العلوي‭ ‬حافل‭ ‬

ياغصن‭ ‬أجمل‭ ‬كربلا‭ ‬

في‭ ‬الكون‭ ‬يانفح‭ ‬الخمائل‭ ‬

قم‭ ‬يابن‭ ‬أزهى‭ ‬كعبة‭ ‬للعلم‭ ‬

يالغة‭ ‬الفطاحل‭.‬

مجزرة‭ ‬في‭ ‬الجنوب

يقول‭ ‬عن‭ ‬أسباب‭ ‬عدم‭ ‬نشر‭ ‬أعماله‭ ‬ومذكراته‭: ((‬ما‭ ‬كتبته‭ ‬لم‭ ‬يكن‭ ‬لتسمح‭ ‬به‭ ‬الرقابة،‭ ‬إذ‭ ‬أن‭ ‬كتاباتي‭ ‬لا‭ ‬تخلو‭ ‬من‭ ‬السياسة‭ ‬والإشارة‭ ‬الى‭ ‬الاضطهاد‭ ‬الذي‭ ‬كان‭ ‬يعانيه‭ ‬الشعب‭ ‬من‭ ‬الحكم‭ ‬الملكي‭ ‬آنذاك‭. ‬اتذكر‭ ‬وأنا‭ ‬في‭ ‬الثانية‭ ‬عشرة‭ ‬من‭ ‬عمري،‭ ‬وربما‭ ‬اكثر‭ ‬بقليل،‭ ‬عندما‭ ‬خرجت‭ ‬من‭ ‬بيتي‭ ‬في‭ ‬حي‭ ‬العمارة‭ ‬الى‭ ‬صحن‭ ‬الإمام‭ ‬علي‭ ‬ـ‭ ‬كرم‭ ‬الله‭ ‬وجهه‭ ‬ـ‭ ‬فوجدت‭ ‬الصحن‭ ‬غابة‭ ‬من‭ ‬الجنائز،‭ ‬صفوفاً‭ ‬ممتدة‭ ‬حتى‭ ‬باب‭ ‬السلام،‭ ‬ثم‭ ‬ذهبت‭ ‬الى‭ ‬والدي‭ ‬فوجدت‭ ‬عنده‭ ‬علي‭ ‬الشرقي‭ ‬وابراهيم‭ ‬الوائلي‭ ‬والزعيم‭ ‬عجمي‭ ‬أبو‭ ‬كلل‭ ‬يتحدثون‭ ‬عن‭ ‬مجزرة‭ ‬في‭ ‬الجنوب،‭ ‬في‭ ‬أطراف‭ ‬الرميثة،‭ ‬قام‭ ‬بها‭ ‬رشيد‭ ‬عالي‭ ‬الكيلاني‭. ‬وهذه‭ ‬الجنائز‭ ‬كانت‭ ‬ضحايا‭ ‬المجزرة،‭ ‬كان‭ ‬من‭ ‬بينهم‭ ‬مئات‭ ‬الأطفال‭. ‬هذه‭ ‬الحادثة‭ ‬دونتها،‭ ‬وهي‭ ‬ما‭ ‬زالت‭ ‬تثير‭ ‬الرعب‭ ‬في‭ ‬نفسي‭ ‬كلما‭ ‬تذكرتها‭. ‬وأنت‭ ‬تعرف‭ ‬أن‭ ‬هذه‭ ‬وأمثالها‭ ‬كثير‭ ‬ترعب‭ ‬السلطة‭ ‬الحاكمة‭ ‬آنذاك‭)).‬

غادرنا‭ ‬عبد‭ ‬الغني‭ ‬الخليلي‭ ‬يوم‭ ‬الجمعة،‭ ‬الخامس‭ ‬عشر‭ ‬من‭ ‬تشرين‭ ‬الثاني‭ ‬عام‭ ‬2002م،‭ ‬محمولاً‭ ‬على‭ ‬الأكتاف‭ ‬إلى‭ ‬مقبرة‭ ‬في‭ ‬شمالي‭ ‬ستوكهولم،‭ ‬تقع‭ ‬قرب‭ ‬سكني،‭ ‬يرقد‭ ‬بسلام‭ ‬تحيط‭ ‬به‭ ‬الزهور‭ ‬والسهوب‭ ‬الخضر‭ ‬على‭ ‬ضفة‭ ‬بحيرة‭ ‬جميلة،‭ ‬يرقد‭ ‬هادئاً‭ ‬بسلام‭ ‬حاملاً‭ ‬معه‭ ‬ذكرياته‭ ‬وآلامه‭ ‬وأحلامه‭….‬

في‭ ‬الأول‭ ‬من‭ ‬تموز‭ ‬1996‭ ‬يكتب‭ ‬الى‭ ‬أحد‭ ‬أصدقائه،‭ ((‬أترى‭ ‬نعود‭ ‬إلى‭ ‬بغداد؟‭ ‬ومن‭ ‬جديد‭ ‬نألف‭ ‬مقاهينا‭ ‬الحبيبة،‭ ‬وأحبة‭ ‬لنا‭ ‬فيها،‭ ‬وننسى‭ ‬ما‭ ‬كابدنا‭ ‬في‭ ‬الغربة‭…)).‬

ونحن،‭ ‬يا‭ ‬ترى‭ ‬هل‭ ‬سنعود‭ ‬إلى‭ ‬بغداد‭ ‬ونعيش‭ ‬ما‭ ‬تبقى‭ ‬من‭ ‬العمر‭ ‬في‭ ‬كنفها‭… ‬؟؟

وأقصد‭ ‬تلك‭ ‬بغداد‭ ‬التي‭ ‬ألفناها،‭ ‬والتي‭ ‬كانت‭…..‬

توجهنا‭ ‬الى‭ ‬ابنه‭ ‬الدكتور‭ ‬فارس‭ ‬الخليلي‭ ‬مستفسرين‭ ‬عن‭ ‬مصير‭ ‬أرشيف‭ ‬الوالد‭ ‬الإبداعي‭ ‬الأدبي،‭ ‬إذ‭ ‬ترك‭ ‬الوالد‭ ‬نتاجاً‭ ‬إبداعياً‭ ‬لم‭ ‬ير‭ ‬النور،‭ ‬وهنالك‭ ‬العديد‭ ‬من‭ ‬المراسلات‭ ‬الأدبية،‭ ‬والكتب‭ ‬والتعليقات‭ ‬والصور‭ ‬وهي‭ ‬تمثل‭ ‬أرشيفاً‭ ‬لحياة‭ ‬الفقيد‭ ‬الخليلي،‭ ‬وعلمنا‭ ‬أن‭ ‬هنالك‭ ‬كتابات‭ ‬ومكتبة‭ ‬تحوي‭ ‬مصادر‭ ‬مهمة‭ ‬مع‭ ‬أرشيف‭ ‬الفقيد‭ ‬ما‭ ‬زالت‭ ‬موجودة‭…‬

ونقول‭: ‬متى‭ ‬يعود‭ ‬العراق‭ ‬معافى‭ ‬ليستذكر‭ ‬أبناءه‭ ‬البررة‭ ‬ومبدعيه‭ ‬ممن‭ ‬تعرضوا‭ ‬للظلم‭ ‬والاضطهاد،‭ ‬وتجرعوا‭ ‬مرارة‭ ‬الغربة‭ ‬مرغمين‭ ‬على‭ ‬ذلك،‭ ‬ومتى‭ ‬تهتم‭ ‬دولتنا‭ ‬بجمع‭ ‬نتاجات‭ ‬من‭ ‬فقدناهم‭ ‬في‭ ‬الشتات،‭ ‬لنعيد‭ ‬الاعتبار‭ ‬لهم‭ ‬باسم‭ ‬الوطن‭ ‬الذي‭ ‬أحبوه‭ ‬وتغنوا‭ ‬به‭ ‬وعاش‭ ‬في‭ ‬أفئدتهم‭…‬وتحملوا‭ ‬عناء‭ ‬ذلك‭ ‬الحب‭…‬

متى‭…. ‬؟؟؟