كاهنات معبد أور أوجاع النساء وذاكرة النهر

184

سلامة الصالحي/

صدرت عن (دار الروسم) الرواية السيرية للشاعرة والكاتبة العراقية رسمية محيبس، المعنونة (كاهنات معبد أور)، التي تتحدث فيها الكاتبة بروح شاعرية فذة، عن سيرة طفولتها وصباها وأيامها التي ارتبطت بنهر الغراف المتفرع عن نهر دجلة في وادي الرافدين، المانح الناس الخبز والأسماك اللذيذة ورائحة الموج والذكريات المرة التي كانت تشي بتستره وفضحه الجرائم وهي تقتل الحب وتقطع رؤوس النساء وتحرم الفتيات من لذة العيش ومعناه ورغبة الحب.
صرخة مكبوتة
جرائم يظن مرتكبوها أن النهر سوف يتستر على جرائمهم، لكنه وبرفضه طبيعة الشر، وهو المانح الحياة ومؤسسها – أي نعم – هو الماء مانح الحياة، يخرج الجثث المغدورة طافحة مشبعة بالورم الذي يشي ببشاعة الجريمة التي بدأت منها ذاكرة الشاعرة الموشومة بذاك الحدث البعيد، والصرخة المكبوتة للنهر والنساء، حيث أسست للألم الأول والتساؤل الأول عن جدوى ما يجري، وعن ثمن الحب الباهظ الذي تدفعه النساء روحاً وعمراً وشباباً، فتتحول قدسية النهر الى قوة كامنة تعيد الى المغدورات قداستهن وأسطوريتهن، فتصبح قبورهن مزارات تسقى بالدمع وسيل الشموع ورائحة الورد الذي نبت حولها.
الجنوب الحزين
تحول الكاتبة تلك الفجيعة وذلك المشهد في الذاكرة الى أسطورة تنتمي الى زمن بعيد، زمن الكاهنات وهن يمنحن الحياة لـ (أوروك) وما حولها، تلك كانت تضحيات النساء وسفح دمائهن على مدى التاريخ، حيث يتحول وجودهن الصانع الحياة والمانح المسرات الى حطام وفجيعة أمام سطوة التقاليد وعنف وقسوة الذكور، الذين سلبوا سلطة الحياة منهن وحولوها الى موت وأحزان تتوارث عبر سلالات ترسب الحزن والألم فيها وصار يورث في الجينات. ذلك هو الجنوب الحزين الذي تصوره رسمية محيبس ببراعة العارفات والمحدسات والكاشفات ما حولهن من غموض. تلك الذكرى الأليمة هي وتد الطفولة التي بدأت بكسرات خبز وقدح شاي وهامة سامقة تتسلق قاربها لتبحث وتصطاد أسماكاً تباع في السوق، ليأتي ذلك الرجل الذي تحول الى حلم بعيد وذكرى في القلب لا تموت، وهو يجالس زوجته وأطفاله جالباً لهم ما يسد الرمق في بيت من الطين يشبه فردوساً على ضفة حالمة لنهر يتيم يأخذ معه الذكريات والفواجع والأحلام الكبيرة، فتكبر تلك الصبية والأب يحملها بين ذراعيه لتكمل دراستها، وتكبر معها أحلامها، فتكتشف أن ما حولها الكثير لتقرأه غير ذاك النهر، وأن الأقدار تخبئ فواجع كثيرة وأحزاناً مخيفة من الفقد والحوادث الطارئة والسجن والخوف، كلها تنتمي الى ذلك الحلم بحياة أكثر حناناً وأقل قسوة وضنكاً وعوزاً.
صخب المدينةٌ
صاحبة السيرة تسافر الى بغداد في رحلة حالمة، بعد أن أكملت سنين صباها معبأة بالأسئلة وأحلام المستقبل، ببالونات ملونة وطائرات ورقية، ستطير حول ذلك النهر للعثور على الجنة المفقودة، وهو حلم يرافق الشاعر حين يبحث عن سر وجوده وكينونة انتمائه لهذا الكون، لتصطدم الشاعرة بالانفتاح والحرية والمدينة الكبيرة وضوضائها وصخبها ووجوه النساء المطلية بالمجملات، فتواجه كل ذلك بالكتابة والصمت والأسئلة الخفية الكامنة في روحها، وترك انطباعها عما تراه ببضع قصائد وأفكار، ثم تنقلها الحياة بعرباتها الغامضة الى أروقة المدارس، فتصبح معلمة تمنح فكرها وأحلامها وأجنة صغارها من الأمنيات إلى طلابها، لتنمو تلك الأحلام وتصبح شهادات عليا من أطباء ومهندسين وعلماء.
موجٌ أبيض
رسمية محيبس تنقل لنا -عبر سيرتها- أحلام الناس وأحزانهم، وسيرة النهر وما تضمنه معطفه من أسرار وفواجع ومسرات قليلة، تلتها حروب وحصارات وعطش، أدت الى انحسار ذلك المعطف المائي الذي بات صغيراً على أحلامها التي عادت بها لتتفقده، فوجدته قد نقص كثيراً، وصار ذكرى لذلك الموج الأبيض، وهو يراقص البط والسمك والطيور المهاجرة وحقول الورد ورائحة الربيع، أين صار ذلك النهر؟ وأين اختفت تلك النافذة التي تطل منها الأحلام والأمنيات والشجرة التي تحرس ببركتها البيت، والشاهدة على زمن مضى سريعاً مباغتاً؟ اين الجدة التي تحكي القصص؟ وأين الأم، والأب، والأخت وبنوها؟
وكأن الرواية تحن الى زمن لن يعود، زمن شره يأكل كل ما يصادفه، ويترك لها فتات الذكريات بعد أن تلمظ بكل ماكان حولها من مسرات وهدأة وهناء.
حكايات صغيرة
كتبت رسمية محيبس سيرتها بهيأة رواية حريرية تأخذك الى زمن ومكانات تبدل كل شيء فيها، فهي تلمح أحياناً، دون أن تذكر التفاصيل، لتترك لك كقارئ حرية التخيل وصناعة أفكارك عما تشير لك فيه، كتبت بنفَس الكبار وهم يظفرون بسر من أسرار الوجود والحياة، وبأن الزمن الذي يرافقنا ينكمش معنا، فتنكمش المكانات وتشيخ وتكهل حتى الأنهار والبيوت، فكانت حكايات صغيرة من حكايات الجنوب وأوجاعه ومسراته القليلة، وهو يخضع لاستبداد الحكومات المتعاقبة وإهمالها بعد أن كان المؤسس الأول لحضارة البشرية ووجودها.
رواية الشعر
اللغة الشاعرية استحكمت على الرواية، فالشاعر حين يكتب الرواية لا يتخلى عن روحه الشاعرة والحالمة، لذا فإنه يعطي جمالاً خارقاً للأشياء، تماماً كالرسام الذي يبث بفرشاته مسحة الجمال على الأشياء مهما كانت قسوتها، كذلك الشاعر المجمّل للزمان والمكان، مهما كانا عاديين، فهو يستثير الجمال المخبوء ويخرجه لنا كأننا لم نره من قبل، وذلك سر الشعر. حين يكتب الشاعر الرواية، تتحول الحياة الى قصيدة طويلة، مليئة بالطفولة والبراءة والحنين، لأنه يمنح الجمادات روحاً وشيطنة وملائكية، بهذا المعنى وتلك الدلالات كتبت رسمية محيبس روايتها السيرية (كاهنات معبد أور)، تاركةً إيانا في وديعة من الألم والحزن والترقب لما جرى، كما أنها حدست بأشياء كثيرة نثرتها بومضات من الشعر، على صفحات كتاب تجاوز المئتي صفحة، مؤرخ لزمن الشاعرة، وزمن الحب والحزن، وفجيعة الحروب والفقد والحياة القاسية التي أخذت منا الكثير ومنحتنا القليل.