لا الخلود في عشبة، ولا الطمأنينة في جسد

737

طالب عبد العزيز/

تعمل المؤسسة الثقافية في لبنان على جعل الأيام الأخيرة، من معرض بيروت الدولي للكتاب بداية للاحتفال بأعياد الميلاد، حتى لتبدو الأيامُ هذه امتداداً للكرنفال الذي تعيشه المدينة سنوياً، وبين مكان المعرض في “البيال” وشارع الحمرا والضواحي اللبنانية الأخرى، القريبة والبعيدة منها، ستتاح لزائرها فرص التمتع، بما تبذله المدينة من جمال وألق.

ولأن ساعات المعرض الحقيقية تبدأ بعد منتصف النهار، لتمتد حتى الليل تقريبا، فقد يمضي الزائرون ليلهم الطويل على البحر، حيث يكون الدفء والليل واقع حال، مثلما سيكون البرد والثلج واقع حال آخر، في الجبال لمن أراد ان يكون نهاره هناك، أما إذا شاء احدٌ ما الذهاب الى جبيل وبيبلوس، حيث القلعة الرومانية، وحيث تكون شجرة الميلاد قد علت وارفعت بكرات الثلج وبالمصابيح والأجراس الملونة، وسط الضاحية الجميلة، فعليه أن يهبط البحر، ويأخذ مجلسه قبالته، قبل كل شيء، وليحرص أميناً، آمناً على أن يكون للشمس مغيبٌ هناك، فهذه لحيظات لن تتكرر أبداً، كذلك، عليه أن يحرص على أن تكون وجبة السمك مطوقة بأكؤس النبيذ الأبيض، فهذا مما لا ينساه المرءُ هنا، أبداً.

لا يبعد البحر طويلاً عن الشجرة، وليست الشجرة مفردة في الساحة التي أضيئت من كل صوب، فالضاحية الصغيرة هذه (جبيل) غابة خضراء أيضاً، يزرع سكانها المسيحيون الأشجار في أي فسحة يجدونها شاغرة من تمثال للسيدة العذراء، لأنك لن تفاجأ أبداً بعدد المريمات الحارسات هنا. الأشجار والشموع والأجراس وصورة السيدة التي تحمل طفلها أو ترفع يديها بالدعاء، هذا، مما ستألفه بعد ساعة، من وجودك، أما إذا كنت من المستجيبين المتعجلين، التابعين لخطاك فكن على يقين، بانك هابط البحر لا محالة، لأن الطرقات كلها ستقودك الى هناك، الى شارع بيبي عبدو، القبطان ومغامر البحر العتيد وزير النساء، مؤسس حلبة مصارعة الديكة وصاحب أول مطعم على البحر في القلعة الرومانية، التي لم تكن قبل من شيء.

كنتُ أبحث في المعرض عن كتابين، وجدتني جادّاً في اقتنائهما، هما: “المنشق” لليوناني نيكوس كازنتزاكيس و”كتاب اللاطمأنينة” للبرتغالي فرناندو بيسوا” حتى لكأنني اكتفيت منهما بكتب المعرض الأخرى، غير ان التَّجوال في المعرض يتيح للزائر امكانية رؤية أكشاك دور العرض، التي اشتركت وجاءت بالجديد والقديم من اصداراتها، وكذلك لحضور فعاليات توقيع الكتب من قبل كتابها، كما أنه يتيح له اللقاء بمن يصادفهم من أصدقائه هناك، وعلى غير عادته، كان المعرض في السنة هذه حافلاً بعدد كبير من الكتاب والمثقفين والزائرين العراقيين، الذين قدموا من الداخل والخارج، فكانت أكشاك وأروقة وكافيتريا المعرض أمكنة لتجمعهم، في حديث متصل طويل، بدايته هنا، بين الكتب ونهاياته في مقاهي الحمرا وأمواج الروشة وحانات البحر وغرفات الفنادق، التي غالبا ما تنغلق على غير ذلك.

بين “المنشق” و”اللاطمأنينة” وجدت نفسي تتنفس ريح عشق الكتابة، يقول بيسوا: “من انفلات الغبشة انبعثت ملامح المدينة، فاذا بالنهار ينبلج مثل انفتاحة نافذة، كان ثمة تبدّل خفيف من ضجيج كل شيء. تلوين أزرق نفذ الى أحجار الشوارع والروائح اللاشخصية للمارين. كانت الشمس دافئة، لكنها مع رطوبة متصلة، أما الضباب المتواري فقد كان يتقطر على نحو غير مرئي” هل كان بيسوا معنا، ليكتب عن بيروت؟ ربما. لكن بيروت هكذا، فقد تدفق المارون بها، وانبعث روائحهم اللاشخصية في شوارعها حال توقف المطر، ومن نافذة الفندق رحت أتقصى حدود الضباب الذي أعلن انسحابه عميقا، على سطح المتوسط، البحر الذي ما انفك أبيض، ازرق، ولا زوردياً، ما أنفكت النساء يرحن ويغدون على أرصفته العريضة، ببنطلوناتهن الجينز وقفاطينهن السود، حيث لما تزل قبلات الليل بعد على غمازاتهن.

وفي “المنشق” يكتب كازنتزاكيس :”لينوتشكا الحبيبة، أشعر بفرحة غامرة عندما تصلني رسالة منك، فكم تدوم تلك الفرحة؟ سوف أبذل قصارى جهدي حتى تظل دائماً، أعرف حدود البشر، ومدى ضيقها، وأعرف قانون الزرع والإزهار والإثمار والتلف أيضاً، لكنني أعرف كذلك قوة الروح التي ليس لها سوى هدف واحد، هو الأسمى: ولا يتمثل في إكمال الطبيعة بل في”التغلب” عليها”. مثلك، أنا يا نيكوس، أعرف قانون الزرع والإزهار والإثمار والتلف أيضاً، لذا وجدتني صامتاً، قليل الكؤوس في الحانات، مقيّدَ القدمين في صالات الرقص، احجب، وبالرؤى الساميات عن عيني ما تناثر من صور حولي، أمسكُ بناصية نزوعي كي لا تبدو حمقاء، بليدة، ألجم خيل رغبات الجسد، لئلا تسقط متهتكة، أروّضها،أجعلها أكثر طمانينة، مخافة أن تنشق وتذهب الى غير بغيتها، التي أردتها لها. في بيروت، عليك أن تفصل بين جسدك ورأسك، فأنت العارف بقانون الزرع والأزهار والأثمار والتلف ايضاً، نعم، ياكانتزاكيس، لم تأتني رسالة من حبيبة، ولست بمبال أبداً، فأنا غابة زروعي وأزهاري وأثماري، لكنني لا أتلف ما تنبته روحي.

تركتُ المعرض بكتبه وبيروت بضواحيها ونسائها ورحت الى جبال الشوف، الى غابة الباروك، الغابة التي اقتحمها جدّنا الأول، كلكامش العظيم، حيث يشتجر الأرز عالياً، وحيث ظل الثلج يسقط هناك، غامراً الحجر والرمل والسناجب، وفي وحدانية الجسد مع الروح، في السكينة التي تمنحها الجذوع الصلدة هذه، بين ما ظل من الثلج عالقاً في الغصون، وما سقط وغطى الغضون الهامدة للأرض العتيقة، بعيداً عن صخب المارين هناك، على الشوارع والأرصفة وفي الأزقة، وما تحدثه أقدامهم في الاسفلت، رحت أصغي لوشوشة الريح، ألبّي النداء العظيم وأرحل مع الحكمة، التي كانت يوما أوروك، مع العظمة التي كانت شجرة أرز، اتوحّد مع روح العظيمَين كلكامش وأنكيدو وهما يصطرعان، أو وهما يتحديان خمبابا الوحش، ومثل ثمرة اكتملت دورتها سقطتْ وتدحرجتْ، رحت أقتفي خطاهما، وهما يبحثان في الغابة العظيمة عن عشبة الخلود. ساعة لا يكمن الخلود في عشبة، ولا تكون الطمأنينة في جسد.