لملحمة كلكامش والتوراة.. فهمٌ آخر
خضير الزيدي
وفرت الصياغات الذهنية، والمعلومات النيرة، التي يمتلكها الباحث والمفكر ناجح المعموري، حيال الأسطورة وتأثيرها الإنساني علينا، نحن القراء، الكثير من المعلومات، وقدمت لنا تصوراً مهماً، عما تذهب إليه طروحاته في شتى الميادين المعرفية والإنسانية، التي تتعلق بالأسطورة وما تخلفه من أثر جاد على الحياة والدين والطبيعة والغيبيات. وكلها امتدادات وظفتها الأسطورة وحملتها ألواح مدونة لتاريخ البشرية، ليس في الشرق الأدنى، بل في عموم العالم .
في كتابه (ملحمة جلجامش والتوراة)، يلجأ هذا الباحث، الذي زودنا سابقاً بكتبه العديدة لفك مضامين الأسطورة والولوج الى نص التوراة، مشيراً الى ما خلفته الحضارة العراقية من تأثير مميز يلقي بظلاله على مشتركات وجودية وإنسانية قابلة للتوظيف. لكن هذه المرة من خلال حمله النص التوراتي..
هذا الكتاب يذهب في فصله الأول الى بعض المحاور: منها مفهوم التناص، لأنه يشير فيه إلى مشتركات النص بين الملحمة والنص التوراتي، متطرقاً إلى تاريخ التأثير بين الاثنين، وأيضاً لا يستبعد -في الفصل الأول- الدخول الى موضوعة الطوفان السومري والطوفان الأكدي والطوفان التوراتي، ليضعنا في قراءته الفكرية حيال ما تناولته التوراة في الإصحاحين السادس والسابع اللذين يذكراننا بنوح وقول الله له “ادخل في التابوت انت وجميع أهلك وخذ من طيور السماء سبعة ذكور وسبع إناث”، ليعيد التركيز على تأويل كل تلك النصوص، إذ نصل الى نتائج متعددة منها أن سبب الطوفان انتقامي / تدميري، وهذا ما طرحته النصوص الأسطورية والتوراتية والتاريخية.
الطوفان
أما النتيجة الثانية التي يصلها المعموري فتكمن في أن علاقة البشر بالآلهة علاقة استمالة واسترضاء، ويذهب باحثنا المعموري إلى توصلات معرفية مهمة لا ينكرها، حينما يشير في كتابه الموسوم (ملحمة كلكامش والتوراة) الى مغزاها المهم، الذي يكمن في أن أسطورة الطوفان -بنصها السومري- هي النص الوحيد الذي بقى الصراع فيه متنامياً ومحكوماً بأسبابه التي دفعت به.
أما الفصل الثاني من هذا الكتاب، فقد أشار الطوفان الى بعض المواضيع والأسس المهمة التي تجمع بين التوراة والملحمة، مشيراً -في بداية فصله الثاني- الى أنكيدو والجذب نحو أوراك وآدم وطرده من الجنة، وأيضاً يناقش محوراً مهماً، وهو المنظومة الرمزية للعدد (سبعة)، ثم يتناول بالبحث الدقيق والنيّر الملحمة ويوسف التوراتي، تجمع مضامين هذا الفصل طروحات فكرية تعتمد التحليل التاريخي معتمداً (المعموري) في ذلك على المنهج التأويلي، مشيراً إلى مقاربات واضحة بين الملحمة والأسطورة، تكمن فيما لعبتهُ كاهنة الرغبات (شمخت) من تأثير مباشر ومؤثر من خلال الترويض لشخصية أنكيدو والأخذ به إلى مدينة أوروك. أما في المقارنة التوراتية، فكان لحواء الدور المهم والواضح في إغواء آدم وإخراجه من الفردوس، والمقاربة المشتركة بين الاثنين تعتمد على أساس الجسد الأنثوي، ويذكر المعموري بالتقارب النصي بين الاثنين من خلال مدونات الملحمة وما وثقته التوراة، مقدماً لنا مقتطفاً من تلك النصوص والمقاربات من مثل ما سجلته الملحمة.
(كن فرحاً مبتهجاً نهار مساء
وأقم الأفراح في كل يوم من أيامك
وارقص والعب مساء نهار
واجعل ثيابك نظيفة زاهية واغسل رأسك واستحم بالماء
ودلل الصغير الذي يمسك بيدك
وأفرح الزوجة التي بين أحضانك.. وهذا نصيب البشرية)
ينبهنا الى ما دونه هذا النص من تعبير شعري وصياغات بنائية تقوم على أساسها فكرة الملحمة، ليشير الى مدى التقارب والتناص، او ما يسميه المعموري في أكثر من تصريح له الى سرقة التوراة من نصوص الملاحم، ومنها ملحمة كلكامش من خلال هذه النصوص، ومنها هذا التقارب بين الاثنين الذي جاء به سفر الجامعة في التوراة:
لتكن ثيابك في كل حين بيضاء، ولا يعوز رأسك الدهن.. التذ عيشاً مع المرأة التي أحببتها كل أيام حياتك.. التي أعطاك الله إياها تحت الشمس.. لأن نصيبك ذلك في الحياة ..
أما في توصلاته الى ما يحمله العدد (7) من علامات، فيشير الى أنه ذو هيمنة واسعة في الفكر العراقي القديم، كونه لعب دوراً في الشعائر والطقوس من خلال امتلاكه قوة سحرية سارية ومتطورة. ويذهب في تفاصيل هذا المحور الفكري الى معتقدات واكتشافات البابليين لكواكب المجموعة الشمسية، والى جذور العدد وما حملته النصوص الدينية المقدسة من إشارات لخلق السماوات والأرض، وبعد كل هذه المقدمات المعرفية والتشابهية، يضع المعموري مقارنة التناص بين نص الملحمة والتوراة من خلال ما دون في الاثنين معاً ليذكر القارئ بما دونته الملحمة:
لبث أنكيدو يتصل بالبغي ستة أيام وسبع ليالٍ
شرب من الشراب القوي سبعة أقداح
حكمت عليه بالعدو شوط سبع ساعات مضاعفة
حلت في أرض أوروك سبع سنين عجاف
ومن أجلك ستهجر الزوجة ولو كانت أم سبعة..
أما التداخل الذي ينوه به صاحبنا في كتابه ما حمله نص التوراة حول العدد 7 الذي جذب إلينا أهمية كبيرة في مستوى التداخل والعلامات التي يتضمنها:
**وفرغ الله في اليوم السابع من عمله فاستراح في اليوم السابع
من جميع البهائم الطاهرة.. تأخذ معك سبعة سبعة ذكراً وأنثى فلبث سبعة أيام أخر وأرسل الحمامة..
** أقام إبراهيم سبع نعاج من الغنم وحدها..
** فدخل يعقوب على راحيل بعد أسبوع وغشيها ثم هرب بها..
عمق التوراة
لقد كنا قرأنا -من قبل- الكثير من الكتب التي تناولها المعموري حيال النص الديني الذي يخص عمق التوراة مثل كتابه (التوراة السياسي وتأويل النص التوراتي لقميص يوسف)، او كتابه القيّم (أقنعة التوراة)، وكذلك كتابه الخاص بأسطورة نبات اللفاح، وهو لا يخرج عن التطرق إلى تأويل النص التوراتي.
كلها كتب تضعنا -كقراء ومحبين- أمام طروحات هذا المفكر بأن نعي قراءة ما يصل اليه من نتائج، وما يقدمه من تصورات، معتمداً في ذلك على فك شفرات النصوص القديمة مع ما تحمله أسفار التوراة وأخبارها من مقاربات وتداخلات قد تجعلنا نعيد التفكير في أحقية نصوص الملحمة على كتاب ديني يشك في بعض مما تحمله أسفاره الكثيرة.