لمن يهدي المؤلفون كتبهم؟

1٬313

باسم عبد الحميد حمودي /

تشكل عملية إهداء الكتاب لمؤلفه معضلة خاصة, لأنها تضع جزءاً من أفكاره وتجربته أمام القارئ. وليس المقصود بالإهداء هنا, الإهداء الشخصي من المؤلف لبعض نسخ كتابه إلى أصدقائه, أو للصحف والمجلات بقصد الترويج, ولكن الإهداء الشخصي يحمل أيضاً طابعاً ثقافياً خاصاً, وفيه الكثير من الطرائف, حيث توالت عليّ عبر سنوات المئات من الكتب التي أهديت لي, وفي الكثير من الإهداءات تعليقات وآراء مثيرة.

جمع محمد القشعمي (وهو كاتب سعودي) صور إهداءات الكتب التي قدمها المؤلفون له, وأصدرها مصورة في كتاب حمل عنوان (إهداءات الكتب) وضع مقدمته د.محيي الدين محسب حلل فيها ظاهرة هذه الإهداءات برشاقة خبير, لكن تجربة من هذا اللون قد لا يكررها آخرون.

المؤلفون القدامى

وإذا كان المؤلفون القدامي مثل الأصمعي والتوحيدي وابن كثير وابن خلكان ومئات غيرهم من الباحثين, قد اعتادوا أن يهدوا مؤلفاتهم إلى الخلفاء والحكام فإنهم كانوا يفعلون ذلك للحصول على مال يعينهم على العيش, ذلك أنهم لم يكونوا يتقنون عملاً آخر غير الكتابة والتأليف, ولعل تلك الأموال كانت واحدة من أسباب عملهم في البحث والتأليف الذي وفر للقارئ في العالم الاسلامي الكثير من وسائل المعرفة وأعطاه ما يطمح اليه من علم.

نماذج من عالم اليوم

إهداءات الكتب في عالم اليوم تتميز بالتنوع واختلاف المقاصد والتجارب والمواقف, بعضها شخصي تماماً ولكنه يشكل جزءاً اساسياً من عالم المؤلف.
قام الكولمبي الكبير ماركيز بإهداء أولى رواياته وأشهرها (مئة عام من العزلة) إلى زوجته مارسيدس, وفعل ذلك مثله الروائي الأردني الراحل مؤنس الرزاز الذي اهدى روايته (اعترافات كاتم صوت) إلى زوجته قائلاً “إلى قسمت .. التي رممتني” ويقيناً ان الصديق مؤنس كان يعاني من أزمة وفاة والده الدكتور منيف الرزاز بعد العاصفة السياسية التي مر بها في بغداد قبل رحيله.

إلى أم عمار

إذا كان معظم من أهدوا كتبهم إلى زوجاتهم يشعرون بالراحة والأمل وهم يفعلون هذا, فإن الكاتب الساخر حسن العاني لا يشعر مثلهم بذلك, فقد أهدى روايته الأولى (الولد الغبي) إلى زوجته الراحلة (أم عمار) وهو يقول لها: (إلى التي خبأتني بين عينيها من جنون الباشا..زوجتي وحبيبتي أم عمار..حيث لا امرأة بعدها تستحق شهقة الروح) ثم يضيف: (كم كنت أتمنى الرحيل معاً إلى الأرض البعيدة). وهو إهداء مؤلم وشجي يعكس حكاية علاقة حب لم تضيعه الرياح, فقد كانت السيدة أم عمار، رحمها الله، حريصة على حسن العاني الذي منعه النظام السابق من الكتابة لسنوات وظل مهدداً بالاعتقال في أية ساعة.
في عام 1973 اصدرت كتابي النقدي الثاني (الوجه الثالث للمرآة) وأهديته إلى زوجتي السيدة أم شهرزاد وقلت في الإهداء (إن هذا الكتاب صدر بعونها ولولاها لما صدر).

إلى علي وإلى راوي العربان

كتابي (الزير سالم) الذي صدر عن الموسوعة الصغيرة اهديته إلى ولدي “علي” احتفاء بمولده, بينما قمت بإهداء كتابي (تغريبة الخفاجي عامر العراقي) الذي طبع ببغداد والقاهرة, إلى (راوي العربان القديم نجد بن هشام) ولهذا الراوي فضل رواية نسخ من ملحمة عنترة ومن السيرة الهلالية الكبرى ومن سيرة الأميرة ذات الهمة.

حسين مردان يهدي كتابه لنفسه

في السادس والعشرين من كانون الاول1949, أصدر الشاعر الراحل ديوانه (قصائد عارية) الذي حوكم وسجن بسببه, وأهدى مردان ديوانه بالنص التالي: “لم أحب شيئاً مثلما أحببت نفسي, فإلى المارد الجبار الملتف بثياب الضباب, إلى الشاعر الثائر والمفكر الحر.. إلى حسين مردان.”

بلقيس شرارة ورفعت

قامت بلقيس شرارة بكتابة مذكراتها تحت عنوان (هكذا مرت الأيام) وصدرت عام 2015 عن دار المدى, والسيدة شرارة واحدة من أبرز المثقفات العراقيات هي وشقيقتها الراحلة الدكتورة حياة شرارة, وهما من أصول لبنانية فوالدهما الاستاذ محمد شرارة التربوي والسياسي المعروف في عصره من بيت علم ودين, لكنه تشرب الفكر التقدمي وكان من دعاته رغم سجنه مراراً.

اقترنت حياة بالمعماري الكبير رفعت الجادرجي, ابن السياسي المعروف كامل الجادرجي عام 1954, وكان حضور حفل العقد زملاء رفعت – كما تروي بلقيس في مذكراتها – هم محمود صبري وقتيبة الشيخ نوري وخالد القصاب وزيد صالح وخالد الرحال وذو النون ايوب ولمعان البكري ومحمد عبد الوهاب ويوسف عبد القادر, وهم بين فنان ومعماري وأديب وناقد.

وسط هذا الجو عاشت بلقيس لتكتب مذكراتها عن أعمال رفعت المعمارية وسجنه وخلاصه وفلسفته وكان طبيعاً أن تكتب الإهداء كالتالي: “إلى رفعة, رفيق العمر والذي لولاه مادونت هذا الكتاب.”

محمود العبطة وكامل الجادرجي

أصدر المحامي الناقد محمود العبطة الجزء الأول من كتابه (القافلة) في حزيران1958 وكان كامل الجادرجي زعيم الحزب الوطني الديمقراطي سجيناً بسبب برقية تأييد إلى مصر, فوضع العبطة إهداء الكتاب إلى الاستاذ الجادرجي في الصفحة 37, ظناً منه أنه سيدلس على رجال الأمن الذي قاموا باعتقاله بعد أيام, ونجحت كفالة أخيه الأصغر المحامي محمد العبطة سكرتير عام نقابة المحامين في أطلاق سراحه بكفالة, على أن يحال للمحاكمة بتهمة قذف الدولة, وكان أن قامت الجمهورية في 14 تموز58 وانتهى الأمر.

أصدر العبطة الجزء الثاني من (القافلة) عام 1959 ويفصح الكاتب في مفتتح كتابه عن الإهداء تحت عنوان (هدية القافلة) أن إهداء الجزء الاول, وهذا الجزء هو للأستاذ الجادرجي (الذي هو وحده المسؤول عن إكساء الألفاظ ثوب الحياة والمعنى) وهو بهذا يؤكد عمق الصلة بينه وبين مريده السياسي الكبير.
إلى أول أزواج أمي!

أطرف الإهداءات الحديثة كتبها البروفسور توبياس وولف في مفتتح مذكراته وجاءت كالتالي “إلى أول أزواج أمي الذي اعتاد على القول إن ما أجهله في هذه الحياة كفيل بملء كتاب)، ولم يفكر توبياس الذي كان كاتب قصة ومؤلفاً للأغاني أن يكون كتابه هذا الملتهب بقسوة زوج الأم فيلماً سينمائياً ظهر عام 1993 باسم (حياة هذا الفتى) باخراج مايكل كايتون جونز، وتمثيل ليوناردو دي كابريو وزميله روبرت دينيرو مع الين بارنين, فقد جسد كابريو عذابات الفتى إزاء قسوة زوج والدته الذي أهداه المؤلف كتابه, قبيل أن يظهر كفيلم سينمائي ناجح!

إهداءات بالجملة

أنجز الدكتورطه محمود طه طبع كتابه (موسوعة جيمس جويس) التي تتالف من أكثر من 670 صفحة من القطع الكبيرعام 1975, وقد استغرق تأليفها أعواماً كثيرة, وقام المؤلف بإهداء موسوعته كالتالي: “إلى من علمني قراءة جيمس جويس، الأستاذ الدكتور ديفيد بيتر ادجيل، إلى من قرأت معهم جيمس جويس في جزيرة بدران, شبرا مصر في كلية الآداب, جامعة عين شمس، في كلية ترينتي, جامعة دبلن، في كلية الآداب في جامعات الرياض، أسيوط ، الكويت. إلى زوجتي وأولادي، أهدي هذه القطرة من محيط جيمس جويس”، ولعله من أطول الإهداءات التي يكتبها مؤلف, لكن أصغر الإهداءات كتبها الدكتور عبد الإله أحمد الذي أهدى كتابه المهم (فهرست القصة العراقية) عام 1973إلى أستاذه الدكتور علي جواد الطاهر.

قام الاستإذان الدكتوران ميجان الرويلي وسعد البازعي بإصدار كتابهما النقدي المهم (دليل الناقد الادبي ) عام 1980 الذي طبع عدة طبعات بعد ذلك, وقد أهدى الناقدان كتابهما كالتالي: (إلى الحركة النقدية في العالم العربي). وهما بذلك لم يخصصا اسماً أو تياراً نقدياً بالذات, وأفلتا من التخصيص المخل بصياغة جملة إهداء عامة كما رأينا.

أول الطريق

أهدت الرائدة النسائية العراقية القاضية صبيحة الشيخ داود كتابها الرائد (أول الطريق إلى النهضة النسوية في العراق) إلى روح والدتها على وفق التالي: (إلى روح والدتي ..إكباراً لأثر وإقراراً لفضل واعترافاً بجميل…أهدي أول الطريق), وكانت صبيحة الشيخ داود محقة تماماً في هذا الإهداء الذي يشكل جزءاً من وفائها لوالدتها التي كانت تتميز بنظرة عصرية متقدمة في وقت كانت النساء العراقيات حبيسات بيوتهن إلا الأقل الأشجع, فقد كانت السيدة أم صبيحة زوجة السياسي أحمد الداود على صلة بالحراك السياسي العام, فقد وقفت مناقشة بقوة السكرتيرة الشرقية للمندوب السامي البريطاني المس بيل, وساعدت في محاولة تهريب زوجها من يد السلطة, وكانت بعد هذا تقف موقف المناوئ العلني لسياسات نوري السعيد كما يذكر هو ذلك في رسائله إلى ناجي شوكت عام 1936!

أطرف الإهداءات

لبعض انواع الكتب طرافة خاصة في الإهداء, فقد أهدى المترجم العراقي علي اللقماني كتابه (براعم الربيع) عام 1959 إلى القارئ الكريم مجاناً! كان ثمن ذلك الكتاب 170 فلساً فقط, وقد حوى على رواية (ثلوج كليمنجارو) لهمنغواي قبل أن يترجمها مترجم آخر, وعلى قصص لصادق هدايت مترجمة عن الفارسية, وليلة ربيع لسلمى لاغروف وقصص أخرى لجان كوكتو.

كان الكتاب بـ300 صفحة وبثمن زهيد لكنه كسد في سوق الكتب, فأمسك اللقماني النسخ الكثيرة الباقية من الألف نسخة وكتب على غلاف كل نسخة وبالحبر الأزرق (أهديه لأني لا أجد من يشتريه)! ووزع نسخ الكتاب على رواد مقهى البرلمان في الحيدرخانة, حيث يجلس يومياً, وعلى زملائه في المدرسة التي يعمل فيها!

وأهدى المعماري قحطان المدفعي ديوان شعره الذي أصدره عام1965 بعنوان (فلول) إلى الذين كانوا مواضيع لبعض قصائد الديوان.
وأهدى الروائي أحمد خلف كتابه النقدي (الجمال في مدياته المتعددة) إلى ولده البكر بالنص التالي: (إلى حيدر أحمد, ولدي, شقيق روحي وعصاي التي أرى فيها كل شيء) وكان أحمد خلف قد أصيب يوماً بكسر في ساقه أقعده زمناً تحمل فيه ولده الأعباء بأسرها.

ختاماً

ليست لهذا المقال خاتمة محددة، فالإهداءت كثيرة ومتنوعة المقاصد, قريبة من النفس حيناً ومن أطماع الدنيا حيناً آخر, مشاكسة حيناً, وصادرة من القلب حيناً, ولأسباب كثيرة أحايين أخرى.

لكل كتاب حكاية, ولكل إهداء سبب ومعنى وقد فاتنا الكثير, ولكننا نعد القارئ الكريم بموضوعة عن الإهداءات الشخصية التي تحمل حميميتها.