لنفكّر بالمسيح والسيّاب!

841

أحمد عبد الحسين/

قبل يومين حلّت ذكرى مزدوجة: ولادة السيّد المسيح ووفاة بدر شاكر السيّاب. ليس تزامن الذكرى وحده الذي يذكّر بهما معاً، بل لأن السيّاب كان مأخوذاً بالمسيح، مشغولاً به حتى سكن المسيح في النصّ الشعريّ السيابيّ كما لم يسكنْ في نصّ آخر.

هنا تفكير بهما معاً وكيف ومتى يمكن للشاعر أن يكون مسيحاً.

اقتلوا أنفسكم

ما من أحدٍ منّا لم يقرّرْ يوماً ما أن يكون المسيحَ ولو للحظة واحدة فقط. هنيهة عابرة يتّجه خاطره بأكمله إلى أن يغدو هو يسوع، وليس أيَّ يسوع، لا يسوع الذي يشفي المرضى ويحيي الموتى ولا يسوع الطفل طبعاً، بل ذلك المثبتة يداه ورجلاه بمسامير على الخشبة: المسيح المصلوب.

الحياة مزعجة وخطيرة لأنها تنطوي أبداً على خطأ حيّ يخالط كلّ شيء ولا سبيل إلى تلافيه، وإذا كانت الدول تبرم ما بينها مذكرات تفاهم فإنّ بين الإنسان وسائر الخلق مذكرات سوء تفاهم يوقّعها كلّ حين.

وفي اللحظة التي تغدو فيها هذه الحياة عبئاً لا يطاق، حين يضمحلّ كلُّ معنى ويقع بينك والناس والأشياء سور لا سبيل إلى تخطيه، في هذه اللحظة يُكتب مصيرك الذي لن يمّحي فيما بعدُ، تختار أن تقتل نفسك.

كلنا انتحرنا في مثل هذه اللحظة، لا بطلقة في الرأس أو حبلاً في العنق، بل بالتسامي عن كل هذا تسامياً مفضياً إلى الموت، بالتقهقر عميقاً في الوجدان بما يشبه الشفقةَ على العالم، شفقة ممزوجة برغبة أن أقدّم نفسي قرباناً لهذا العالم علّه يرضى.

باب للهروب

هذا فعلٌ مسيحيّ. لكنّ كثيرين قبل المسيح فعلوا ذلك، لا بل إن اعتقادي الراسخ أنْ لا أحد من بني البشر لم يخامره هذا الشعورُ، لا أحد لم ينجرْ صليبه ساعةَ يغدو مهجوراً مغبوناً مُساءً فهمُه أو ملتبساً هو ومعناه على العالم.

كثيرون اختاروا الصلبَ واختبروا المسمار يخترق أكفّهم في ساعات انكفائهم على أنفسهم مهجورين، لكنّ المسيح أعطانا المشهد كاملاً، مثله مثل كلّ مَنْ يصدّق الكلمةَ ويؤمن بها سواداً على بياضٍ، يمضي بالكلمة إلى منتهاها.

ذلك أننا ـ نحن البسطاء قليلي الإيمان ـ نرى في كل كلمة باباً سريّة نستطيع أن نهرب بها من المعنى حين يثقلنا المعنى، نفتح البابَ ونخرج ببساطة، نهربُ بتقليب الكلام على وجوهه، نهربُ بالتأويل، بالتفسير الركيك والمتقنِ، نفلتُ من ثقل المعنى؛ وكلّنا استدلّ منذ الصغر على هذه البابِ المُنجية من الحقيقة.

نريد أن نحمل الصليب ويطاف بنا في الأسواق ونُحمل إلى الجلجلة ونصرخ الصرخة الأخيرة لكنْ في أعماقنا وحسب، لا نريد للكلمة أن تتجسّد، نرتضي بأن نغدو مُسحاء كذبة، وهذا هو كلّ نصيبنا من العيد الكبير.

أما المسيح فلا. لم يكنْ يريد بابَ الخروج من المعنى، كان يريد أن يكون هو الكلمة والمعنى. وفي لحظة ضعفه صار يسوع مسيحاً على الصليب.

عذوبة العذاب

أقسى عذابٍ نعانيه هو أن لا يكون لعذابنا معنى، أنْ تفتقر آلامنا لسندٍ قويٍّ يجعلها ذات مغزى، وإلا ما فائدة وجعك إذا لمْ يُدِرْ رؤوس الناس إليك؟ ما فضل ألمك على ألم سائر الناس إنْ لمْ يكنْ فريداً.

فرادة الألمِ في جعله عموميّاً، أن يكون للجميع ومن أجل الجميع، من أجلكم أتألم فهلمّوا شاهدوا ألمي. بهذه المشهدية الفريدة صاغ المسيحُ يومه الأخير الذي لم ينته حتى اللحظة. فحين تغدو الحياة المزعجةُ سيئة الفهم وقاسيةً بما لا يُحتمل، ليس أمامي إلا أنْ أسمو بجرحي لأجعله جرحاً من أجل العالم، ولن أتجاوز ألمي إلا إذا تجاوزت أناي.

السيّاب ـ المسيح

ألم يحدث لك أنت أيضاً أنْ حوصرتَ بمنغصات الأيامَ والليالي فلم تجدْ بدّاً من أن تكون مسيحاً، رفعتَ كآبتك قرباناً كأنما تفتدي الناس جميعاً، وأنت تدري أنه وجع شخصيّ، هي عثرتك التي عثرتها أنت، لكنْ لا كمال إلا حين تقول للعالم إني عثرتُ بدلاً منك وجُرحتُ الجرحَ الذي كان ينبغي أن ينزف به سواي.

لم يفعل السيابُ شيئاً سوى هذا: بعد أن أصبحت الحياة مُحكمةً في تصريف قسوتها عليه كيفما شاءتْ، أصبح طريّ القلب، هشّ الوجدان. حينها صبّ نقمته على الناس والإله قبل أن يكتشفَ البابَ السريّة التي يهرب بها إلى معنى قديمٍ غنيّ، وصار مسيحاً.

قال السياب في شعره إنه يفتدي العالم، خفف من ألمه كثيراً بأنْ جعله ألماً للناس ومن أجلهم، حلّق بعيداً فوق تخوم مواجعه الشخصية من سريره في المستشفى إلى صليبه في القدس:

(وأنا المسيح يجرّ في المنفى صليبه).

(صرتُ مستقبلاً صرتُ بذرة
صرتُ جيلاً من الناس

في كل قلبٍ دمي

قطرة منه أو بعض قطرة).

(حين عرّيت جرحي وضمدت جرحاً سواه

حُطّم السور بيني وبين الإله).

قصيدته “المسيح بعد الصلب” وهي تستحقّ مني سجدة شكرٍ كلما قرأتها، هي قصيدتنا جميعاً. قصيدة كلّ من لا يريد لألمه أن يذهب هباء، قصيدة من يرغب في أن يرفع جرحه علامة على افتداء العالم المليء بالأباطيل.

المسيحُ ابن الناصرة آمن بالكلمة وعاشها، بل “ماتها” بعد أن صُلب بها حتى صار هو الكلمة.

لكنّ السياب ابن البصرة قالها كما لم يقلها أحد قبله ولا بعده.

مسيحُ الكلمة هو.

آمين.