ماري روز تعبر مدينة الشمس.. أن تنسج رواية من حكاية يومية!

986

محمود الغيطاني /

هل تصلح الحكايات اليومية والمُكررة والتي باتت مُعتادة- لا يمكن لها أن تُثير الدهشة أو تستوقفنا أمامها للحظة؛ لفرط تكرارها وعاديتها- أن تكون نموذجا صالحا للسرد الروائي؟ وإذا كان الفن في مفهومه الأعمق والأشمل يحتمل في معناه إثارة الدهشة أساسا؛ ومن ثم التوقف أمامه لتأمله، فهل من الممكن أن نجعل من حكاية مُستهلكة كأساس للسرد الروائي بحيث ينبني عليها معمار روائي كامل؛ لتظل صالحة لإثارة الدهشة والتأمل بالنسبة للمتلقي؟

بالتأكيد سترد إلى أذهاننا مثل هذه التساؤلات وغيرها من الأسئلة حين قراءتنا لرواية “ماري روز تعبر مدينة الشمس” للروائي الأردني قاسم توفيق؛ فالحكاية التي اعتمد عليها الروائي كمتن لعمله السردي باتت لفرط تكرارها في أوطاننا العربية، ولكثرة ما تم الاعتماد عليها في العديد من الأعمال الفنية- سواء أكانت سردية أم سينمائية- مجرد حكاية عادية لا يلتفت إليها أحد إذا ما حدثت أمامه؛ لذلك يُعد الاعتماد على حكاية- تكاد تكون مملة لفرط تكرارها- مثل هذه من قبل المغامرة التي قد تنسف السرد الروائي بالكامل، أي أن الروائي هنا يُغامر مغامرة حقيقية بروايته التي ستكون على المحك.

قصة الحب المعتادة بين مسلم ومسيحية في مجتمع عربي بائس بسبب تقاليده وعاداته، ويزيده بؤسا انسياقه خلف الدين بشكل أعمى ومن دون أي فهم؛ ما يُنذر في نهاية الأمر بالكثير من الدم والانتقام والقتل باسم الإله الذي يمنع هذه العلاقة من الحب بين اثنين من البشر لمجرد اختلافهما في الديانة رغم أنهما يعبدان ربّاً واحداً.

هذه الحكاية التي تكررت في مجتمعاتنا العربية غير مرة وبأشكال وتجليات مختلفة يعتمد عليها الروائي قاسم توفيق اعتمادا كليا كمتن لروايته وكأنها تحدث لأول مرة؛ لذا لم يكن أمام الروائي سوى اللعب بتقنيات السرد؛ كي تُخرجه من مأزق العادية والتكرار، أي اعتبار السرد الروائي مجرد لعبة يلعبها الروائي، يُمارس فيها الكثير من المتعة؛ كي يُمتع المتلقي معه، ومن ثم تصبح الحكاية العادية ممتعة، قابلة للمتابعة حتى النهاية من قبل المتلقي.

بداية السرد

ربما نلحظ منذ بداية السرد أن الراوي/ أحمد يتميز بحبه للحياة والاستمتاع بها، والمواجهة بدلا من التخفي ودفن رأسه في التراب، وهذا ما يؤكده منذ بداية السرد حينما نقرأ: “كنت أحب فعل ذلك في وضح النهار، أكره الليل كثيرا، أليس في الرؤيا قدر عظيم من المتعة؟ ملعون من ابتكر هذه الأشياء، الأضواء القبيحة الخافتة، أو العتمة التي تخفي المرأة اللدنة وهي ساكنة بين يدي”، أي أن الراوي يفضل دائما الحياة في المواجهة والنور والوضوح، ولا يحب أن يفعل شيئا في الظلام والخفية حتى لو كان هذا الفعل هو فعل المتعة، أي الفعل الجنسي؛ لذلك يكون حريصا دائما على أن يكون هذا الفعل في الضوء وليس في العتمة، ولعل مثل هذا الاقتباس يعطينا من الخصائص النفسية لبطل الرواية منذ البداية ما يجعلنا قادرين على رؤية البطل وفهم سيكولوجيته، وهذا ما يعود إلى التأكيد عليه بعد هذا الاقتباس بصفحتين حينما يتحدث مع حبيبته هيام قائلا: “ملعون هذا الذي فكر بأن يكون ذلك في الظلمة، ما الذي يريده؟ تراه يصير قبيحا عندما يرجع لإنسانيته؟ عندما ينشطر عن كل ما تعلمه ويرجع كائنا طفلا لم تلوثه الحياة؟ أويكون مظهره مضحكا فيخاف أن تتركه المرأة التي معه؟ أحسب أنها اللحظة العظيمة لاشتعال الإنسان فينا، الإنسان فقط دون الأشياء الكثيرة القبيحة التي تعلمها منذ يوم ولادته، هل تتخيلين أحدا يمارسها بوقار وأدب؟!”

إذن فمن خلال مقطعين في بداية صفحات الرواية يرغب الروائي أن يعطينا المفاتيح السيكولوجية لشخصية الراوي المواجه، الجريء، القادر على اتخاذ القرار، الذي لا يهرب حينما تواجهه الأزمات، ولعل تأكيده على فعل كل شيء في النور هو دليل على هذه السيكولوجية التي لا تحب التخفي، لكن لعل هذين الاقتباسين اللذين حرص عليهما الروائي منذ البداية لتحديد السمات الرئيسية في شخصية الراوي كانا من أهم عوامل الضعف في السرد؛ فلقد كان هذان الاقتباسان سببين في وقوع الروائي في التناقض على طول الرواية، أي أن الرواية رغم سلاستها السردية، وقدرته على أن يتلاعب بها، ويستخدم العديد من آليات السرد، بل والاستعارة من آليات السينما ليوظفها في السرد الروائي، إلا أنه أوقع نفسه في التناقض منذ بداية العمل حينما أصر على أن يكون البطل بمثل هذه السيكولوجية؛ لأننا سنراه فيما بعد متناقضا تماما مع ما سبق أن قرأناه في هذين المقطعين حينما تحمل منه هيام ويحاول إخفاء علاقته بها لأنها مسيحية، بل ويُصرّ على إجهاضها بدعوى خوفه عليها من أهلها وخشية قتلهم لها: “الأرض صغيرة ضيقة، وعمان أقل من أن تتسع لطفل صغير. جبالها السبعة متقابلة وهنا حيث وقفنا نحن ننتظر وسيلة القفز من العالم الشرقي المعتم فيها إلى الغرب المبهج والمضيء، هنا يقبع حزن وتعب عمان كلها، فقر البيوت، وضيقها، طين الزقاق، صراخ الأطفال، العلامة التي تجمع كل الناس وتوحد كل الناس. تعطي الإحساس الأعظم بالألفة. كنا نود الذهاب بسرعة إلى حيث الطبيب، انتظرنا سيارة يمكن أن تنقلنا إلى حيث هنا”، هنا يحاول الراوي- رغم عشقه الكبير لهيام- أن يتخلص من جنينهما، ورغم أن عملية الإجهاض قد تؤدي إلى موتها إلا أنه يبدو مُصرّا على الفعل في الوقت الذي تشعر فيه هيام بالكثير من الحزن؛ لأنها ستفقد جنينها الذي ترغبه ولا تريد التخلص منه، لكنها تبدو على طول الرواية مستسلمة وكأنها لا رأي لها، فتفعل ما يرغبه أحمد حتى لو لم تكن موافقة عليه، وهذا ما يجعلها تذهب معه إلى الطبيب للتخلص من الجنين فعليا.

إذن فقاسم توفيق يقع في خطأ يكاد ينسف السرد برمته منذ بداية روايته، وسبب هذا الخطأ الفادح الذي أدى به إلى مثل هذا التناقض السردي.

تكتيك روائي

يبدو السرد في مواضع كثيرة متأثرا أيما تأثر بالتكنيك السينمائي حيث يستخدم الروائي تقنيات القطع Cut، والفلاش باك Flash Back، ثم لا يلبث العودة إلى نقطة السرد الأساسية الآنية التي ينطلق منها وسبق أن قطع عندها، ولعل استخدام هذه التقنيات رغم أهميتها في السرد إلا أنها تحتاج إلى قارئ شديد التركيز؛ حيث يكون القطع المفاجئ، كذلك الاسترجاع الذهني المفاجئ؛ ما يستدعي القارئ غير الجاد إلى إعادة القراءة مرة أخرى نتيجة لأن السرد سيلتبس عليه نتيجة استخدام هذه التقنيات، نلاحظ ذلك منذ بداية السرد الروائي، فرغم أن الرواية تبدأ بعلاقة أحمد الجنسية مع هيام مباشرة، إلا أنه بعد معرفتنا بعلاقتيهما، وكيف أنهما يلتقيان معا في بيته تحت نظر أمه باعتبارها زميلته في الجامعة، وبعد نقاشه مع أمه في أنه لا بد من إغلاق باب الغرفة عليهما حينما يدخلانها- وهو ما تعترض عليه الأم-؛ لرغبتهما في الجلوس بهدوء من دون أن يقاطعهما أحد، يقطع فجأة مسترجعا السرد؛ كي نفهم فحوى العلاقة بينهما: “كانت المرة الأولى في يوم ماطر، انهمر فيه المطر منذ الصباح لكنه عند العصر توقف، مشيت معها في شارع طويل لا توجد فيه غير عتمة الغيم الأسود. كنا نتحدث عن الموسيقى، وهي تفهم الموسيقى تلك الأغنيات التي تطربها وتهز خصرها. أنا وقتها كنت قد بدأت أفهم شيئا بسيطا مما يقوله بيتهوفن وباخ، وموزارت، وكنت أحب كثيرا بحيرة البجع لتشايكوفسكي.”