محمد عضيمة يعيد اكتشاف أدونيس

1٬095

حربي محسن عبدالله/

أحد معاني الاستلاب في وقتنا الراهن مشابه لحالة تجلس فيها مكتوف اليدين أمام شاشة للقنوات الفضائية دون أن يكون بيدك “ريموت كونترول”، ينقذك من برنامج يبعث الملالة والسأم لتنتقل إلى شغف رؤية أخرى، بكامل بهاء حريتك. والاستلاب الذي أتحدث عنه هنا هو الحالة السلبية أمام “الكبار”، العظماء”، “القامات”، في أكثر من مجال ومقام، وكلّ منْ له باع طويل أو حظ وفير أو حتى من حطته الصدف العمياء في مقامات ترنو لها العيون وتلتوي نحوها الأعناق. إذن من يمتلك الجرأة على إطلاق النار على المألوف والمكرر من المواقف المسبّقة والكليشهات الراسخة هو بحق من يرفع راية الدعوة ضد الاستلاب، حتى لو تعرّض للتهم التي يرددها من أدمن الاستسهال، أمثال تهمة التنطع أو التحامل أو “هذا ضارب نفسه بحجر كبير”.

بين يدينا كتاب من سلسلة “ديوان الشعر الجديد” الصادر عن “دار التكوين في دمشق” للكاتب والشاعر “محمد عُضيمة” وهو الكتاب السادس في هذه السلسلة وقد خصصه لشعر “أدونيس” تحت عنوان لافت هو “عندما أختار من شعر أدونيس” ليؤكد الكاتب فرادته وطرافته في آن معاً عندما يصرّ على حريته التامة في الاختيار وليشرح للقارئ أسبابه ودوافعه بلا لفّ ولا دوران عبر مقدمة تصل إلى مايقارب الستين صفحة، جاءت تحت عنوان “مقدمة على شكل سيرة ذاتية” يأخذنا فيها عضيمة إلى البدايات؛ يتوقف أمام الشعر الحديث والحداثة والموقف منها ومن أدونيس بالذات فيقول: “لم يُهاجم أحد الشعر الحديث، بجميع ممثليه، وجميع تياراته، منذ أيامها الأولى حتى الآن، إلا وكان أدونيس في ذهنه وعلى رأس القائمة. فهذا الشعر، غامض، أحجية، ولا يُحفظ، بالنسبة إلى بعضهم، وفوضوي، أناني، غير ملتزم بقضايا الأمة والجماهير وبرجوازي، في نظر البعض الآخر، وهو اغتراب وتغريب وتقليد للغرب عند آخرين، ثم هو تخريب لذائقة الشباب الجمالية والقومية لدى النظام الرسمي العربي، وهو أخيراً نوع من أنواع الكفر عند المتشددين في الدين، لأنه يخرب اللغة العربية، لغة القرآن والحديث والقداسة”. ومن هذا المنطلق يسلط الكاتب/ الشاعر الضوء على تجربته الشخصية على اعتبار أن الإنسان بالمطلق هو شاعر بالقوة، كما يرى، “لكنه لا يصبح شاعراً بالفعل إلا بالتمرين والممارسة”.

أستذكر هنا ما قاله “كولن ولسون” صاحب كتاب “اللامنتمي” بما معناه “إن بداخل كل إنسان فناناً، إن تمّ الاهتمام به فسيكبر شيئاً فشيئاً وإن أهمل فسيموت”. يعتبر عُضيمة أن الشعر “كان، ولايزال، المنبر الوحيد المتاح في المجتمعات المتخلفة، للصراخ بحرية، لإثبات الذات وتعريفها، للتواصل مع هذه الذات والآخرين، ولو كانت هناك وسائل أخرى تحقق هذه الغاية وغيرها مما يحتاجه الكائن البشري، لقلّ عدد الشعراء، بهذه الطريقة القائمة على اللغة، كثيراً في بلادنا، ولعلي سأميل إلى خيار آخر غير هذا الخيار، من يدري!”. ثم يعود بنا إلى المواقف المضادّة للشعر الحديث حتى بين الشعراء أنفسهم، ليس لأنه كان غامضاً بمقدار ما كانوا هم غير معتادين على هذه الطريقة من التعبير، ولا حتى طريقة نثر الكلمات على الصفحة بشكل يبدو للوهلة الأولى عشوائياً ليس ثمة من خيط ناظم له، هذا الشكل الذي يثير الأسئلة البصرية التي أصبحت الآن تبدو وكأنها بسيطة وعادية: “تفتح الكتاب فلا تجد أبياتاً ولا قافية، بل تقع على عبارات منثورة فوق الصفحة بطريقة ستصفها بالعشوائية وبلا تردد. هل تظن أن هذه المفاجأة سهلة على قارئ الشعر، أو على شاعر مبتدئ يبحث عن الطريق المستقيم في الشعر!”. يتساءل الكاتب..

ثم يقف أمام الغموض الذي كان موضة على حد تعبير عُضيمة “لأن الشعر الحديث كان غامضاً في نظر الجميع، ولا يزال في نظر الغالبية الساحقة، ولا سيما شعر أدونيس”… ومن نافل القول أنه لا يتحمل مسؤولية هذه القصة، فأدونيس يكتب بوعي كامل ويعرف أن ما يكتبه لا يندرج في إطار الشعر السهل. بل في إطار الشعر الصعب، العصي على غير المتخصص. الشعر المثقف. شعر الرؤى والأفكار. شعر الفلسفات البشرية، المؤمنة وغير المؤمنة، التوحيدية وغير التوحيدية. شعر الميتافيزيقيا الحقيقية، الأصيلة، كما تتجلى لدى كبار الشعار، وبالتالي، من الطبيعي أن تكون نصوصه، في أغلبها، غامضة، غير واضحة، أو مغلقة تماماً بالنسبة لمن لا يعرف شيئاً عن تأريخ الفلسفة والفكر. من هنا يعتبر الكاتب أن النص الأدونيسي محرّض كبير على الكتابة مباشرة بعد قراءته أو أثناء القراءة. لنتوقف هنا أمام هذا المقطع الشعري الذي جاء تحت عنوان:

“ولهذا لا يتركني”

ماتتْ أزمنة الكلمات/ الوحي، وماتتْ

نبرة هذا العصر، وماتتْ

أحلام الريفِ وماتتْ شهوات المدنِ

ولهذا لايتركني رفضي

ودمشقُ الأخرى لا تتركني،

ولهذا، يتغير شعري كالأشياء

ولهذا، أسكن زوبعة الأشياء ….

من أين لشعر أدونيس كل هذا الاستفزاز؟ سؤال ظلّ في ذاكرة عُضيمة، كما يقول، منذ البدايات حتى اللحظة الراهنة. إذ لا يمكن أن تقرأه من دون أن تشعر بعدها بالحاجة للكتابة ويكمل قائلاً: “هناك صوت يناديك من وراء السطور: جرب أن تكتب، جرب.. لكن أكتب على منوالي”.

ختاماً بين يدينا مختارات شعرية ليست بالمعنى الشائع للكلمة، بل هي كما يقول عُضيمة “شيء من إعادة الترتيب لبعض الكتل اللغوية لتؤدي وظيفة أخرى مختلفة وجديدة، وليست إعادة كتابة كما قد يخطر للذهن. يعني أختار في سبيل المثال جملة أو جملتين أو أكثر من البداية، أو من الوسط، وأجد التتمة في النص نفسه. أو ببساطة أكثر، أختار مقطعاً من داخل النص، إذا توفر، وأستقل به عن كامل السياق بحيث يؤدي إلى سياق آخر جديد ومختلف. والأهم أن يكون المقطع من طبيعة تدركه الحواس الخمس قبل الذهن”.

هكذا نحن أمام قراءة مغايرة وأسلوب جديد في القراءة يقف بجرأة ضد الاستلاب في دعوة للتمرد والثورة على الأساليب النمطية. دعوة للحرية المطلقة في تسليط الضوء على مكامن الغموض ومن زوايا مختلفة لتتسع الرؤيا وإن ضاقت العبارة.