محمود العبطة.. وصايا الأب الدائمـــة لأبنائه
جاسم عاصي/
الكتابة عن الأديب والمحامي (محمود العبطة) لا تكفيها صفحات قليلة، لأنه أنموذج زخرت حياته بالتنوع والعلاقات مع الأجيال، فحفظ حكاياتهم وسيّرهم عن ظهر قلب. لم تأخذه غفوة عن حركة أدبية، سواء كان تجمعاً يضم نخبة قليلة من الأدباء الناشئة، أم مطبوعا بسيطا يعبّر عن مساعي شباب يرومون الالتحاق بركب سفينة المثقفين والأدباء في البلد ظناً منهم أنها ما وجدت إلا لنجاتهم
فاستمرأوا ركوب ظهرها بكل قناعة واندفاعة الشباب. وكان (العبطة) من يدفعهم ويقوّم مسيرتهم. يتخذ من مقهى (عارف آغا) في شارع الرشيد مكاناً يعرفه الجميع فيقصدوه في أوقات يختاروها حيث لا تُسبب له ارباكاً في انهماكه في قراءة الصحيفة أو الكتاب، يستقبلهم بوجه الأب الذي يحنُّ لرؤية أبنائه الذين أبعدتهم عوادي الدهر عنه. ويجالسهم بحديثه الشيّق. يسأل عن الغائب قبل الحاضر، ولا ينسى أحداً. كل مجموعة يعرفها بالعدد والكمال، فإذا غاب أحدهم سأل للاطمئنان عليه. يسأل عن نتاجاتهم، فيسارع كل منهم لإخراج ما كتب من حقيبته أو محفظته، فهم طلبة بررة، ينتظرون ملاحظاتهم. يسأل عن بقائهم في بغداد إن كانوا من المحافظات. وحين يعرف المدة لبقائهم، يوعدهم على اليوم الثاني بقراءة نتاجهم. وإن كان من سكنة العاصمة، يأخذ بقلمه ونظارته ويبدأ بالقراءة، فإذا استحسن ما يقرأ أو لديه ملاحظة عن خطأ نحوي أو اسلوبي، يعرف صاحب النص معنى نظرته تلك، فيبتسم إن كانت لصالحه، ويطأطئ رأسه إن أحسَّ أنها مثلبة في نصه. وما أن ينتهي من القراءة حتى تنفتح أساريره بالمدح وإظهار الايجابيات، ثم يعرّج على ما يشوب النص من هنّات بأسلوب المعلم المُجيد لمهنته التربوية.
كان يستقبلنا الأدباء (مهدي السماوي، عبد الجبار العبودي، يحيى ادريس الصواف، حسين محمد سعيد، عودة عبد النبي العامل في شركة جقمجي، صالح البدري، حسين السلمان) يسأل ويمرح معنا، ويشد من أزرنا، ثم يفتح درسه منبهاً إيانا إلى التاريخ الأدبي والأجيال الأدبية، يُحدثنا عن السياب والبياتي وبُلند الحيدري والجواهري. فذاكرته سجّل أمين لمن عايشهم ومن سبقوه. مرة جئناه من مدينة الناصرية (مهدي السماوي وعبد الجبار العبودي) وحللنا ضيوفاً عليه في مقهاه الأثير. وعرف أننا سنسافر إلى الموصل لحضور ملتقى أدبي تحت عنوان (القصة الفلسطينية) يومها كنت قد أعددت ورقة عن (غسان كنفاني) منحنا ملاحظات كثيرة، لكن أهمها أن انتبهوا فالموصل تشهد صراعات سياسية خطيرة. كان هذا في حزيران 1968فما كان من الأخ (مهدي السماوي) إلا الانسحاب من المشاركة. فذهبنا (عبد الجبار العبودي، حسين محمد سعيد. وهو شاب كردي دؤوب، يجمع حوله نخبة من الأدباء الشباب، ويصدّر نشرة أدبية يكتبها الأعضاء ومنهم ( حسين السلمان المسرحي، وعودة عبد النبي وصالح البدري وآخرون) وعانينا ما عانينا ونحن في الموصل، حتى وصل الأمر إلى هروبنا من الفندق عند الفجر، ولم تُقَم الحلقة الدراسية لاضطراب الوضع السياسي آنذاك. استقبلنا (العبطة) مستفسراً عن سفرتنا، فغدونا نحن القصخونية وهو المصغي لرواياتنا.
كان يصدر دورية تحت عنوان ( القافلة) أصدر منها أعداداً قليلة. فأمر اصدارها مرهون بالمناسبات. وأذكر أن آخر عدد صدر آنذاك مكرّساً للشاعر الوطني (معروف الرصافي ــ بغداد 1968) وضم موادا مختلفة ضمنها دراسته عن الرصافي، ثم ( محمود أحمد السيد بقلم عبد هدوي/ زهرة الآمال لشفيق القيماقجي/ هوامش على هامش الشعر لكامل خميس/ محمود أحمد السيد رائد القصة العراقية لحمودي الأنصاري/ التدفق الإنساني لحيى ادريس/ زهيت بالحسن لشفيق القيماقجي / الخلود قصة ليحيى ادريس ) وللعدد قصة، كان قد أخبرنا عنها بسرعة ونحن في محافظاتنا، وهي قصة كتابة الدكتور ( يوسف عزالدين عن الرصافي) التي رأى فيها ( العبطة) مسّا بتاريخ الشاعر الوطني، وقرر اصدار المجلة طالباً منا موادا لاستكمال العدد للصدور. وفعلاً كانت دراسته التي استغرقت ( 67) صفحة من المجلة، وهي دراسة وافية، جمعت بين التاريخ والدفاع عن الشاعر ومواقفه الوطنية، فهو القائل:
يهون علينا في السياسة أننا نُصلب في الأعواد أو ندخل السجنا
وهو القائل في وصفه لأهل بلده:
لو يملك الأمر قومي في مواطنهم ما كان حقي لديهم قط مهضوما
لكنما أمرهم ملك لأجنبهم فليس من عجب أن عشت مظلوما
فقد حفظ للشاعر مكانته من بحثه وتقصّيه لكل من كتب عن الرصافي، كذلك تقصّي حياته المضطربة، ونضاله الدؤوب من أجل وطنه وشعبه.
كان (العبطة) أباً للجميع، متذكراً لهم. يحمل ذاكرة قوية. أذكر أني في منتصف سبعينات القرن الماضي، دأبت على إعداد ملف عن الأديب والمناضل (حسين محمد سعيد) الذي اغتيل آنذاك، وطلب مني الأخ (فاضل الربيعي) في صحيفة (الفكر الجديد) أن أختار من لهم علاقة مع الراحل، فكان ( العبطة) أبرزهم، سألت ّ عنه بعد فراق دام أكثر من خمس عشرة سنة، عرفت أن له مكتبا للمحاماة في زقاق قرب مركز شرطة الكرخ. فقصدته، ودخلت مكتبه، سلمت عليه وجلست. فما كان منه إلا أن جلس بالقرب مني كزبون، سألني ما عندي من أمر، فقلت جئت أبحث عن صديق فارقته سنين طويلة. قال: سهلة سنجده لك. وكلمة منه وأخرى مني، حتى ابتسم قائلاً (ملعون جاسم.. كبرت وبان الشيب على شاربك) ثم مس بأصبعه شاربي، وسأل هل تزوجت قلت: بلا / ورزقت بذرية؟ أجبت بنعم. قال بثقة: واسم أولادك فلسطينية؟ اليس كذلك؟ قلت نعم هما( سميح وغسان) عندها احتضنني وكبت دموعاً كادت تفلت من عينيه. لكني أتذكر أن صدره كان يغلي بحرقة. فشاركته البكاء الصامت هكذا.