مطاردة الرجل الوسيم.. المقهى بوصفه مكاناً للاعتقال

790

طالب عبد العزيز/

أحسِبُها مصادفةً، نعمْ، مصادفةً، لا أكثر، تلك الساعة التي تسلمت فيها نسخة كتاب( أعمدة النيران الخضراء) بتحقيق الشاعر حيدر الكعبي، الكتاب الذي ضم بين دفتيه قصائد منتخبة وسطوراً قليلة عن حياة مجموعة من الشعراء العراقيين، الذين قتلهم نظام صدام حسين في الفترة بين عامي(1968-2003)

الكتاب الذي بذل فيه صديقنا الكعبي الجهد الجميل والموقف النبيل وتظافرت على إخراجه جهود زملاء آخرين، وفيما كنتُ أنشغل في تقليب صفحاته، أقف عند البعض من شعرائه، بينهم أصدقاء تقاسمتُ مع بعضهم كرسي المدرسة وأريكة المقهى وصالة السينما، وبينهم من قرات له ما كان ينشره في صحف ومجلات بغداد والبصرة.
مقهى الادباء
وفي رحلة التصفح القصيرة هذه رحت أتأمل لحظة مكوثي القصيرة، أمس، في مقهى الادباء، بالبصرة، حيث اعلمني أحد الاصدقاء الادباء بان الشاب البدين، هذا الذي يجلس الى جوارنا، ويبدو كأننا لا نشعر به، هو من منتسبي شرطة الاستخبارات العسكرية. ليس في الأمر غرابة، بكل تأكيد، فرجال الأمن وشرطة الاستخبارات، وعبر الأزمنة العراقية كلها، غالبا ما يتخدون من المقاهي امكنة لضحاياهم، فرصاً غبية لمطاردة الذين يتحدثون في السياسة والدين والنساء… وما شأني، أخائف أنا ؟
المشهد المستقطع من الزمن هذا، اعادني للعام1996 إلى مقهى عبدالله بالعشار، حيث أعتقلت شرطةُ الأمن السريّة عدداً من أدباء البصرة، وحيث أومأَ لي ابنه( صلاح) بيده، انْ أبتعدْ. كنتُ اوشك دخول المقهى، وأتخاذ مقعدي المفضل فيها، لكنني لم أدخلها إلا بعد خروجهم الاسطوري، من معتقل الرضوانية، حيث أمضى بعضهم العام والعامين هناك، لا أعرف كيف استسلمتُ لهاجس الاعتقال أمس، لم أكُ، ولا أحداً من زملائي في المقهى، من المتهمين بغير تهمة الانتماء للوطن، هذا الانتماء الذي اورثنا القتل والتشريد والمنافي، ولا أعرف لماذا يصرُّ مشهد -المقهى مكاناً للإعتقال- على معاودتي بين الحين والآخر؟

شارع الثقافة البصرية

مقهى الأدباء في البصرة مكانٌ معلوم للجميع، يقصده المتقاعدون في الصباحات- جلّهم من الشيوعيين والخارجين على طاعة النظام السابق، وفي المساءات يأمّهُ المثقفون، شعراء وقصاصون وفنانون وعاطلون عن الأمل يتحدثون في السياسة والفن والصحافة وسوء إدارة المدينة، معترضين على أداء الحكومة، وكل حديث بينهم واضح وشائع عند الجميع، مسموع من الجميع، نادل المقهى لا يخشاهم ويعرفهم واحدا واحداً، فقد علمنا زمن صدام حسين أن نادل المقهى واش، لذا فالعاملون في المقاهي والمطاعم وخدمة الفنادق وأصحاب المكتبات وسواهم وشاة وأمنيون مجهولون. لكن الطابع العام لرواد مقهى الأدباء في البصرة هو المعارضة السياسية، أصواتهم معلنة، وحججهم دامغة، وهم لا يخشون أحداً، لا بل يمكنني القول بانهم يتوسلون الحكومة اعتقالاً، كيما يوصلون أصواتهم مباشرة لها، ولا سرية في موقفهم هذا، فأنت تجدهم في ساحة التظاهرات، مساء كل جمعة، ينددون بأفعالها، ويعترضون على أدائها، وحين تحين ساعة انصرافهم من الساحة، وقد بحت الحناجر من الهتاف وإعلان المبادئ ينحدرون الى شارع الفراهيدي (شارع الثقافة البصرية) ، أشهدُ الله، أنْ ليس بينهم من يملك خنجراً صدئاً، او مطرقة ومنجلاً والحكومة تعلم بذلك، ترى، لماذا تُرسل أحد شرطتها الاستخبارية للمقهى؟

الرجل الوسيم

أنا اقول لكم: في مكان ما، خارج المقهى هذه، في الركن الأكثر هدوءاً وسكينة من الشارع المفضي للمقهى يجلس رجل وسيم جداً، وخط شعره الشيب، فهو خصلة رماد وخصلة حرير، رجل من عامة الناس، يحبّه الجميع، ويتفقده الجميع، يبيع مع ابتسامة صادقة عفيفة الخمرةَ للخلّص من أصدقائه، لم يمتهن من مهن الدنيا واحدة ، ولم يسرق، لم يقتل، لم يشرع بكذبة على أحد حتى، يكتب الشعر بصمت، ويحرر قصائد جميلة لقراء مجهولين. المتقاعدون يعرفونه والادباء يصادقونه، وعابرو السبيل يعلمون بمجلسه، وهو رجل طيب جدا، يبيع خمرته سرّا، هي مما يجود به سائقو سيارات(لأوبامو-الجارجر-اليوكن) على سكان المدينة العريقة هذه.

في الحقيقة، لاشأن لشرطي الاستخبارات، الذي أدمن الجلوس في المقهى هذه، بما يقوله المتقاعدون من الشيوعيين السابقين، ولا حاجة له عند الادباء المثقفين المعارضين.أبداً، وهو لا يصغي طويلاً لأحاديث الشباب الرياضيين، الذين يتخذون مجلسهم في فسحة المقهى الامامية، أبداً، فهو في شغل عنهم. لا هم ولا غمَّ لديه سوى متابعة الرجل الوسيم الطيب، الذي يبيع الادباءَ خمرته، ويحرص على أن تكون لياليهم أجمل بعدما ظلت حالكة مظلمة طوال عقود من هيمنة نظام البعث. بئس الاستخبارات وبئس من يلاحق بائع خمرة وسيم يحبّه الجميع.