موسيقى البصرة وتراثها في رواية “دفوف رابعة العدوية”

351

باسم عبد الحميد حمودي /

تنفرد رواية عبد الستار البيضاني (دفوف رابعة العدوية) في فصل مهم من فصولها بدراسة الموسيقى الشعبية البصرية درامياً، وتقديم تفاصيلها الأخاذة للقارئ، ذلك أنها موسيقى مختلطة كما سنوضح، تتداخل فيها حضارات البحر وعنفوان النهر الجميل الموحد: شط العرب.
ولبصرة الأمس واليوم قدراتها الثقافية والموسيقية, ذلك أن أول من ألف في فن (الإيقاع ) هو عالم اللغة الكبير الخليل بن أحمد الفراهيدي, سيد العروض والصوت الشعري واللغوي .ولا يبدو الحديث عن الموسيقى الإفريقية الوافدة خالصاً لإفريقيتها فقط, بل لاندماجها الصوتي مع موسيقى المنطقة ودخولها عالمها الحضاري الديني.
عرض روائي للموسيقى الشعبية
يقودنا عبد الستار البيضاني الى حفل خاص بالموسيقى الشعبية البصرية التي تقدم على وفق طقوس خاصة, ومحبو هذا اللون من الموسيقى الطاغية يتسرب على لسان (عبيد)، وهو واحد من شخصيات الرواية الذين يقول عنهم ص116:
(ناس طيبون نزحوا من المدن البعيدة والقريبة.. بدو وفلاحون ومعدان وأكراد وأرمن ومسيحيون ويهود وأحوازيون…لكنهم تطبعوا بأطباع البصرة الطيبة).
طك يلد
في الرواية يقود (طارق)، دليل الراوي العليم، الرجل البغدادي الى شارع بشار وعقوده العديدة ليصل الى رجل أشيب يدلهم على بيت فيه (طك يلد)، ويشرح طارق معنى هذا المصطلح الشعبي الموسيقي بقوله:
( المعنى الحرفي للجملة هو ضرب الجلد, ولأنهم يقلبون الجيم ياء فتصير (يلد), ويعنون بالجلد جلد الطبول والدفوف, أما (الطك) فهي مفردة عامية تعني الضرب) ص157
وبعد نقاش يقول طارق لصاحبه البغدادي: أنا ألفت أنتباهك الى يومي الخميس والجمعة اللذين تقام فيهما جلسات الخشابة, وهما يومان مباركان عند المسلمين تقام فيهما صلاة الجمعة وجلسات الذكر والأدعية وتوزيع الثوابات والعطايا في سبيل الله.
يستكمل الكاتب الحديث مع طارق فيقول: ولا أستبعد أن جلسات الخشابة أصل أقامتها هو التقرب الى الله, وأن هؤلاء الخشابة هم ورثة رابعة العدوية التي اكتشفت أن الموسيقى والغناء من الطرق المؤدية الى الله (ص158).
ورأي الراوي العليم ليس دقيقاً فيما يخص الموسيقى الوافدة، لكن عمل رابعة المتصوفة بدأ بالموسيقى وانتهى بالتعبد والتولّه في حب الذات الإلهية حين تقول:
أحبك حبين حب الهوى وحب لأنك أهل لذاكا
وهي لا تخفي ذلك الوله الصوفي الغريب الذي لا يتشابه مع تقاليد (طك يلد) الخاصة.
هنا يدخل كاتب الدفوف وراويها بيتاً عرفه الدليل يسرف الراوي في وصف شخوصه وعمارته ليدخلا حوشاً واسعاً مخصصاً للضيوف حيث يجلسون على دكة مستطيلة تحيط بالمكان الذي تفصله الغرف الداخلية عن سواه.
في ضلع من المكان رصت الآلات الموسيقية من طبول وصنوج وعود وكمان.. تتوسط الجلسة امرأة متوسطة العمر ترتدي هاشمياً أسود ويرتخي شال أبيض على صدرها وهي منشغلة بالحديث مع رجل كبير العمر تستقر الكوفية على رأسه, المرأة هي ( الماما)، قائدة الحفل المقبل والرجل هو (البابا)، المساعد الأيمن لحركتها وسريان إيقاع الحفل.
يقول المؤلف إن أغلب هذه البيوت تعود الى مهجرين من اليهود والإيرانيين والكويتيين الذين انقطعوا عنها بعد 1990.
تبدا الفرقة بإدارة من الماما بدوزنة إيقاعاتها, لكنها قبل ذلك تبدأ بالصلاة الجهرية على النبي محمد وآله وأصحابه ليبدأ صوت العود مفرداً وحامله يقول منشداً: زور الأئمة وشم من ترابهم رايحة (رائحة) – ليبدأ عزف الطبول متساوقة معه والماما (رسلية) تصاحبهم بالعزف على طبلة فخارية والمغني ينشد مع العزف:
وأجعل عيونك عليهم من البجي رايحة
وزيارة أهل العيد للناس مو رايحة
كوم يا مسكين سوي لدنياك عز وفخر
واعتصم بالله ما من سؤالك ذخر
الذخر باقي ودنياك البلا رايحة
ثم تتصاعد الإيقاعات لفترة قصيرة ليرتفع صوت المغني الأسمر بأغان وبستات أخرى تقود العزف فيها الماما رسلية وقد استبدلت طبلتها بدف زنجاري.. لتعود الأصوات واضحة ومبهمة حيث تتمايل الأجساد على إيقاع الموسيقى الذي يخفت تارة ويشتد أخرى، حتى تتغير هيئة الأغاني الى بستات راقصة تشارك فيها صبايا يدخلن الحلبة، ويشرب الجالسون كؤوس الراح إن شاءوا.
وكنت أناجك يا من ترى خفايا القلوب ولسنا نراكا
أحبك حبين حب الهوى وحب لأنك أهل لذاكا
وهنا تتداخل أناشيد رابعة العدوية وتجلياتها بإيقاعات الشدّة (المجموعة) التي تقودها رسلية, وتختلط المواويل البحرية بأغاني السامري ليرتفع صوت رسلية صادحة:
لفوني ويه هواي لف الجكاره
ما تحوج النيران من خدي ناره
وهو مقطع غنائي مشحون بالوله يشعل حركات الرقص المشحونة بالعاطفة لكل أعضاء الفرقة، حتى ترتفع يد الماما بإنهاء العزف والرقص.. لتنتهي الحفلة مثلما بدأت, بسكون وهيبة.
النوبان – المكيد
أما موسيقى (النوبان) الإفريقية وسط (مكايد) البصرة فقد جاءت نتيجة لدخول العامل الديني وسط التجارب الفنية, فأداء النوبان الموسيقي وسط الصرخة الأولى من آلة (الصرناي) التي تسمع من أماكن بعيدة، يستوجب دخول المحتشدين وسط المكيد ضمن نسق الأداء في حال من الوجد الصوفي الناتج عن حب النبي محمد صلى الله عليه السلام وآل بيته الأطهار.
يبدأ أداء المكيد الموسيقي باستخدام (الصرناي) والدفوف, وانقسام الحضور الى فصيلين متقابلين يتحركان بحركات موزونة عكس عقرب الساعة وهما يستمعان الى تلاوات صوتية من الأناشيد والكلمات العبادية, في وقت نجد فيه أن السامع البعيد لموسيقى النوبان يتحرك في مكانه في حالة من الوجد الصوفي.
إن التهيئة لاحتفال المكيد قبل بدء العزف والأداء البشري تجري بتبخير مكان المكيد وقراءة سورة الفاتحة ومنع دخول أرض المكيد بالأحذية، إضافة الى طهارة الابدان.
حفلات الشدّات البصرية تجري بقيادة (الكاسور) الذي يحرك أداء فرقته مثل الكوند كتر( القائد الأوركسترالي) ويجري أداء الألحان البصرية الجميلة التي تختلط فيها المقامات البغدادية بالألحان الإفريقية والخليجية الأخرى.
و(الشدّة) هي الفرقة الغنائية الأدائية التي تصاحب المنشد أو المنشدة الأساسيين للبستة مع راقص او أكثر.
والكاسورة نوع من أنواع الأدوات الموسيقية الشعبية البصرية، وإضافة للكاسورة هناك: النكازي والسنطور والصرناي والطمبورة, ولكل آلة شكلها ودورها الموسيقي.
ومن الشدّات القديمة شدّة ملا عدنان وشدّة طالب سعد وشدّة أم علي وسواها.
وقد سمي الكثير من الفرق البصرية بالخشّابة، وهي تسمية خليجية عامة، وجاءت التسمية من قيام صانعي السفن ونجاريها خلال راحتهم بصناعة آلات موسيقية من أخشاب السفن التي يصنعونها للعزف عليها والغناء ساعات الراحة.
إن الموسيقى البصرية الجميلة قد اكتسبت طابعاً عراقياً خاصاً متفرداً علينا الاهتمام به وصيانته.
تجمعات موسيقية حديثة
وقد تكونت في السنوات الأخيرة مجموعات من المثقفين الموسيقيين الواعين الذي يقمون حفلاتهم بوعي ثقافي يمزج بين أنواع المقامات المعروفة وإيقاعات موسيقى النوبان, والابتعاد عن جو (المكيد) الى جو العرض الموسيقي الغنائي البصري المميز، ومنها فرقة (عراجين) وفرقة (البصرة) وسواهما.. في سعي لتنظيف الجلسة الموسيقية من شوائب لا تمت للموسيقى بصلة. .