ميلان كونديرا: في الرواية يمكنك أن تقول كل ما تخشاه!

266

سامر أنور الشمالي /

الأديب المعروف (ميلان كونديرا)، ككل المشاهير في عالم الأدب، كتب الرواية، والى جانبها القصة القصيرة، وفي بدايته اصدر مجموعة شعرية. وأغلب أحداث رواياته تجري في (تشيكوسلوفاكيا) حيث ولد عام 1929 ثم اختار الهجرة عام 1975 بعد صدامه مع الحزب الشيوعي الحاكم في بلده آنذاك، ليستقر في فرنسا ناشداً حرية التفكير والإبداع، ثم اختار الفرنسية للكتابة بها منذ عام 1995 مع روايته (البطء).
وكتب (كونديرا) المحاضرات دون التخلي عن أسلوبه الحكائي في الكتابة الروائية، فكانت جذابة بأسلوبها الرشيق. وقد خصص تلك المحاضرات للحديث عن الرواية عامة، ورواياته خاصة، ثم جمعها تحت عنوان: (فن الرواية) مقراً بأن كتابة الرواية هي الفن الأكثر أوروبية في العالم- بحسب تعبيره- وقد اختار الكتابة في مجالها، وليكتب عنها أيضا، وإنه فخور بهذا العمل الذي منحه القدرة على رؤية العالم بشكل أفضل.
مصطلح رئيس
يعود الفضل- في رأي كونديرا- إلى (سيرفانتس) الروائي الإسباني الشهير الذي أسهم بشكل رئيس في ابتكار فن الرواية لإنقاذ الإنسان من (الوجود المنسي)، وهذا المصطلح استعاره من الفيلسوف الألماني (مارتن هيدغر) 1889-1976 تلميذ (إدموند هوسرل) 1859-1938 المولود في (تشيكوسلوفاكيا) بلد (كونديرا).
وجد (هيدغر) أن الإنسان حشر نفسه في أنفاق المعرفة المتخصصة، فغاب عنه العالم في كليته، وبذلك لم تقدم له تلك المعرفة النظرة الشمولية التي ينبغي عليه امتلاكها لفهم ما يجري حوله. وهنا يأتي دور الأدب- وتحديدا الرواية- لإلقاء الضوء على المساحات المعتمة حيث ينتظر الإنسان من يمد له يد العون، كيلا يغرق في المزيد من الوحشة. وهذه المهمة الجليلة قامت بها الرواية خلال تاريخها الذي امتد لأربعة قرون، بدليل أنها اكتشفت، (بطريقتها الخاصة ومنطقها الخاص)، مظاهر الوجود المختلفة: مع مُعاصري سرفانتس تتساءل الرواية عن ماهية المغامرة؛ مع صامويل ريتشاردسون تشرع في سبر ما يحدث في دواخل الإنسان وفي الكشف عن الحياة السرية للأحاسيس؛ مع بلزاك، تكتشف تجذر الإنسان في التاريخ؛ مع فلوبير تكتشف أرض اليومي التي بقيت حتى ذلك الحين مجهولة؛ مع تولستوي، تعكف على تدخل اللامعقول في قرارات الإنسان وسلوكه. وتتوجه الرواية أيضا إلى سبر الزمن: اللحظة الماضية المنفلتة مع مارسيل بروست؛ واللحظة الحاضرة المنفلتة مع جيمس جويس.
أحكام أخلاقية
وتتساءل الرواية مع توماس مان عن دور الأساطير التي، (وهي قادمة من أعماق الأزمنة، تُوجه خطواتنا). ونحن نكتشف في هذه السطور القليلة أن (كونديرا) أوجز تاريخ الرواية- من زاويته الخاصة- عن طريق الحديث عن روائييه المفضلين الذين اعترف بتأثره بأعمالهم لأنهم كتبوا بمهارة عن الإنسان الذي تجري في عروقه الدماء، وعن أخطائه الكارثية، وفضائله السامية، دون الحاجة إلى إطلاق أحكام أخلاقية. وهذا ليس من مهمة الرواية- على أي حال- برأي (كونديرا) الذي يرفض القيام بدور الواعظ والمرشد، ويؤيد ترك احتمالات التأويل مفتوحة أمام القراء، دون المطالبة بحلول حاسمة للموضوعات المطروحة بالضرورة.
حقيقة الأمر
ويرد (كونديرا) على من يتقول بأن الرواية أصبحت زائدة على الحياة، أو لا يمكن لها أن تستمر إلى ما لا نهاية، عندما يصرح: (إذا كانت علّة وجود الرواية هي الحفاظ على عالم الحياة مُضاء دوما، وهي حمايتنا من نسيان الوجود، أفلا يكون وجود الرواية اليوم ضروريا أكثر من أي وقت مضى)؟
ومع أنّ هذا الدفاع غير مقنع للجميع، فإنه يعيد التأكيد بقوله عن الرواية إنها: (لا تختفي، بل إنّ تاريخها يتوقف.. ولا يبقى بعد هذا التاريخ إلا زمن التكرار، إذ تُعيد الرواية إنتاج شكلها مُفرغا من روحه, يتعلق الأمر إذاً بموت مكتوم لا يثير انتباه أحد ولا يصدم أحدا). حينها فقط تفقد الرواية مبرر وجودها- في رأي كونديرا- ويغدو ما سيكتب تحت بند الرواية لا ينطوي في حقيقة الأمر تحت فن الرواية الأصيل- أو بحسب تعبيره- تصبح تلك الكتب: (روايات ما بعد نهاية تاريخ الرواية). وهذا لا يعني أن الرواية استنفدت ذاتها تماما، أو أنها لن تقتحم الحياة من جديد بطريقة أخرى، فـ: (من هنا تتولد الرغبة في تجاوز الحدود الزمنية لحياة فردية، الحدود التي ظلت الرواية إلى الآن حبيستها، وتتولد الرغبة في إدخال حقب تاريخية عديدة في فضاء هذه الحياة).
ويبدو أنه لم يخطر لـ(كونديرا)، عندما حدثنا عن العالم غير الصحي الذي ستختفي فيه الرواية، أنه سيكون فيه أناس بائسون جدا، ولكن يصلحون لأن يكونوا شخصيات روائية بامتياز! وربما شخصيات شبيهة بـ(الدون كيشوت) وهي الشخصية التي نالت إعجابه لدرجة أنه كثيرا ما يتحدث عنها بإعجاب منقطع النظير!.
تتيح لك الراوية كل ما تريد قوله
تمتلك الرواية –بطبيعتها- الكثير لتقوله، لهذا يؤكد (كونديرا) بثقة: (عرفت الرواية اللاوعي قبل فرويد، وعرفت الصراع الطبقي قبل ماركس، وطبقت الفينومينولوجيا- البحث عن جوهر الحالات الإنسانية- قبل الفينومينولوجيين). وهنا علينا الحذر لدى قراءة هذه الفقرة، ثم مقارنتها بأقوال أخرى للمؤلف نفسه، فهو يقول في مكان آخر: (إذا اعتبر المؤلف وضعاً تاريخياً إمكاناً جديداً للعالم الإنساني وكاشفاً له، فإنه سوف يرغب في وصف هذا الإمكان كما هو. لكن الوفاء للواقع التاريخي أمر ثانوي، قياساً إلى قيمة الرواية. فالروائي ليس مؤرخاً ولا نبياً، إنه مستكشف للوجود وحسب).
وليوضح (كونديرا) أفكاره بطريقة أفضل يفصح عن التركيبة التي يعتمدها أثناء بناء رواياته: (إنني أبني رواياتي دوماً على مستويين: في المستوى الأول، أقوم بتأليف الحكاية الروائية، وفوق هذا المستوى أطوّر موضوعات في المستوى الثاني، يتم تناول الموضوعات داخل الحكاية الروائية وبواسطتها بلا انفصال. فعندما تتخلى الرواية عن موضوعاتها وتكتفي بسرد الحكاية، فإنها تصبح سطحية. وبالمقابل، يُمكن تطوير موضوعة لوحدها، خارج الحكاية. هذه الطريقة في تناول موضوعة ما، أسميها الاستطراد. والاستطراد يعني: إهمال الحكاية الروائية لفترة من الزمن).