نشرها سنة 1923 وجابه بها احتلال الإنكليز رمزيّاً مع الدكتور مصطفى جواد في أُولى مقطوعاته الشعرية

53

حسين محمد عجيل

في ربيع سنة 1923م، أعلن مصطفى جواد، وهو في نحو السابعة عشرة من عمره، عن بدء حياته الثقافية والأدبية، بوصفه شاعراً ناشئاً ينظم مقطوعات وقصائد، وينشرها في مجلات مدرسية ذات طابع أدبي، كانت اثنتان منها تصدران في دار المعلمين الابتدائية ببغداد، حيث كان يدرس منذ خريف 1921م.

كان من المفاجئ لي مؤخراً اكتشاف أن ما رمز إليه من وراء أول مقطوعة منشورة في حياته، التي سماها «الهرّ والفيران»، هو الاحتلال الإنكليزي في أوج قوته وتمكنه من مقدرات البلاد عقب ثورة العشرين، التي شهد صبياً فظاعات قمعها في بلدته دَلتاوة (الخالص حالياً)، واكتشافي أن ذلك الشاب الحدث كان يحمل في جوانحه همّاً وطنياً حيال احتلال بلاده، استطاع أن يعبّر عنه بالرموز والكنايات وينشره في مجلة متداولة على نحو ذكي من دون أن يتسبب له بأي أذى.
سر غير معلن
وإذ تحلّ هذه الأيام الذكرى الـ 55 لرحيل الدكتور مصطفى جواد (المولود في بغداد سنة 1906 والمتوفى فيها يوم الأربعاء 17 كانون الأول 1969م)، رأيت أن أُحيي المناسبة بالكشف عن هذا السرّ غير المعلن عنه من قبل، الذي يقدّم ملمحاً غير معروف في سيرة واحد من كبار رجالات نهضة البلاد.
نشرت هذه المقطوعة يوم الخميس 5 نيسان 1923م، بالعدد 22 من مجلة (التلميذ العراقي) الأُسبوعية البغدادية لصاحبها ومديرها سعيد فهيم، ومدير إدارتها محمود حلمي صاحب المكتبة العصريّة. وجاء في توصيف المجلة للمقطوعة المتعددة القوافي والمؤلّفة من 12 بيتاً، أنّها «من الشعر المدرسي»، وكُتب بإزاء اسمه في ختامها «دار المعلمين».
وسرد فيها مصطفى جواد نجاح تدبير الفئران في القضاء على الهرّ «المستبدّ» الذي استولى على بيوتها وقوتها وتركها للجوع والعطش. وقد تكشّف لي بعد التوغل في دراسة سيرته والوقوف على كتاباته المنشورة- باسمه أو بأسماء مستعارة- وأعماله ووثائقه غير المنشورة، وسبرِ أغوار حياته وتجاربه الأُولى، أنه أراد أن يكنّي في هذه المقطوعة على نحوٍ رمزيّ عن احتدام الصراعِ الدائر يومئذ بين الثائرين من العراقيين وبين المحتلّ الإنكليزي، ويبشر بإمكانية انتصار عدد من الضعفاء المتضامنين على قويّ واحد تجبّر عليهم، خصوصاً أنه وقف على جرائم هذا المتجبّر المروّعة في بلدته دَلتاوة في أيلول/ سبتمبر 1920م، وشاهد بعينيه حين كان صبيّاً ما فعل بالبلدة وأهلها من أفاعيل يوم أخمد انتفاضتهم الشعبيّة، فظلّت هذه الأحداث المؤلمة في ذاكرته طويلاً، ووثّق بعض مشاهداته وذكرياته عنها منذ عشرينيات القرن الماضي في إحدى صحف بغداد ولكن باسمٍ مستعار، كما سأكشف عن تفاصيلِ ذلك في كتاب قيد الطبع، ثم وثقها بتوسّعٍ في مجلة (المناهل) البغدادية بين سنتي 1963 – 1964م، ثم تطرق لها في سيرته الذاتية المنشورة بالجزء الأول من كتاب «شعراء العراق في القرن العشرين» للدكتور يوسف عز الدّين الصادر سنة 1969م.
أحداث دلتاوة
ويلاحظ هنا استخدامه في المقطوعة ألفاظاً مثل «مستبدّ، جاسوس، مُعادٍ، ضَيم..» التي تكرّرت في توثيقه لأحداث دَلْتاوة في ثورة العشرين، وأصبحت رائجةً في الأدبيّات السياسية لدى المشتغلين في الحركة الوطنية آنذاك، بل إن ما حكاه على لسان الشيخ في البيت الثالث، يكاد أن يكون وصفاً لما شهده هو في دَلْتاوة، أوان انتفاضتها، من خُطب لبعض شيوخِ بلدته والثوار القادمين من مدن أُخرى تحريضاً للناس على محاربة المستعمر، قبل أن ينقضّ الأخير على البلدة وأهلها بالمكيدة، ويجهض تحرّكهم.
وليته أنهى مقطوعته بالبيت ما قبل الأخير، فبيت الختام كان أضعفها، لكنه مقبول على كل حال من ناظِمٍ في أول نشر له.
ريادة الإعلام الثقافي
لقد تلاحقت بعد هذه المقطوعة مقطوعات له وقصائد اتسع لها- بعد بضعِ سنوات- مجال الانتشار والشّهرة النسبية حين أخذ ينشر نماذج كثيرة منها في مجلات شهيرة كـمجلة (لغة العرب) التي كان يصدرها في بغداد الأب أنستاس الكرمليّ، ومجلة (أبولو) القاهرية. غير أن الشعر لم يكن قدر مصطفى جواد، على الرغم من أنه ظلّ يراوده فيستجيب حتى في أيام مرضه الأخيرة، بل كان البحث والتنقيب والتحري والتقصي في حقول اللغة والتاريخ وعلم الخطط وتحقيق التراث قدره الذي ظهر فيه نبوغه، وتحققت من خلاله شهرته في الأوساط كافة، وهي شهرة لم تتحقّق لمثقف عراقي في القرن الماضي قط، ولم ينافسه فيها منافس، ابتدأت في انقطاعه إلى مجلة (لغة العرب) يحرّر ويساجل ويصنّف المقالات، ولم تنته بريادته الإعلام الثقافي في العراق إذاعياً ثم تلفازياً، في برامج عديدة كان معداً لها أو مقدماً أو ضيفاً دائمياً.

 

الهِرُّ والفِيْران

قــــــــدِ استبدَّ الهِرُّ بالبُيـُــوتِ إذ مَنَــعَ الفَأرَ اختلاسَ القُوْتِ
فهاجتِ الفِيْرانُ جُوْعًا وعطَشْ ومَن حَظِي بخُبزةٍ قد انتعشْ
فاجتمعتْ يوماً بوسْطِ النّــادي من غيرِ جاسوسٍ ولا مُعادي
فقالَ شيــــــــــخٌ لهم يا قَوْمي إلـــــى مَتى بَقاؤنا فـي الضَّيْمِ
فإنّني أُرْشِدُكم سَبيــــــــــــــلا لعِيـْــــشةٍ طيّـِــبةٍ كفيــــــــــلا
مَــــن يأتِني منــكم بِلَحْمٍ وإِبَرْ فذاك شَهْمٌ وهو فيــــــنا مُعْتَبَرْ
فجاءَه صغيـــــرُهم بما طَلَبْ لكي يُذيقوا الهِرَّ أنواعَ العَطَبْ
وقــــد رماها في طريقِ الهِرِّ حتّى رآها الهرُّ فـــــــي المَمَرِّ
فظنَّها كأكلةٍ غريــــــــــــــبه وهي لَعَمْري حِيْلةٌ عجيــــــبه
بَلِيّــــــةٌ دَاهيـــــةٌ مُصيبــــه قـــــــد أَعْقَبَتْهُ مَوْتَةً كئيـــــــبه
لمّا أتوهُ قطّعـــــــــــــوه إرَبا فانظرْ إلى المُغترِّ كيـفَ انْغَلَبا
إنّ القويَّ يغلبُ الضَّعيـــــــفا فاجْتَهِدن ولا تَكُــنْ نَحيـــــــــفا