نقد في خمس تجارب شعرية نسائية

421

عدي العبادي /

احتل حضور المرأة العراقية في خارطة الشعر العربي والعراقي حيزاً مهماً، إذ كان وجودها بارزاً في بداية حركة الحداثة الأدبية، ففي مطلع الخمسينيات ظهرت حركة الشعر الحر على يد بدر شاكر السياب وعبد الوهاب البياتي وشاذل طاقة ونازك الملائكة،أسهمت نازك بشكل كبير في صناعة الشعر الحر حين نظمت قصيدتها الشهيرة (الكوليرا) التي كتبتها تأثراً بتداعيات الوباء الذي ضرب مصر في العام 1947 ونشرت في مجلة (العروبة) الأسبوعية، ولهذا يذهب بعض النقاد الى أن ريادة الشعر الحر كانت لنازك الملائكة، فقد أصدر السياب بعد شهر من قصيدة (الكوليرا) مجموعته الشعرية (أنشودة المطر). كما كان حضور لميعة عباس عمارة في تأسيس اتحاد الأدباء والكتاب العراقيين يمثل أول مشاركة لعنصر نسائي في بناء مؤسسة ثقافية مهمة.
وفي تاريخ الشعر العراقي ظهرت أسماء لشاعرات أمثال آمال الزهاوي، وأليس الآلوسي، وأمل الجبوري، وحنان فوزي المسعودي، وعاتكة الخزرجي، وغيرهن. واليوم نجد الساحة الأدبية العراقية تضم نخبة جيدة من الشاعرات، نذكر منهن الشاعرة (رائدة جرجيس)، وهي شاعرة عراقية مغتربة أسست تجمع (الكلمة الرائدة)، تمتاز برقة الكتابة والإحساس العالي. تقول في أحد نصوصها:
مواعيدك فرح
مواويلي اشتياق
كنخلة مثقلة بالتمر
عشقي والالتياع
مدني المحاصرة
منيعة
إلا على قلبك
وتاج الممالك اسمك
أبهى زينة.. فحروفه أنغام وتر
كالمطر
يتساقط ظلك متمرداً على الأرض
لم تضع الشاعرة في نصها اهتماماً على مركزية أو موضوعية، بل جعلته عبارة عن مجموعة أطروحات، وظل يتنقل ويخلق نصوصاً عدة في داخل النص الواحد، ولا غرابة، ففي قصيدة النثر يمكن أن يكون كل بيت عبارة عن نص مستقل بذاته، بل حتى العنوان يمكن أن يكون هو النص:
أنا، أنت، هم، والشحن
ذلك الُبعد لعينْ
كأبواب صدئة
لا جدوى لمفاتيح
إلا أنامل الحلم
وتلك وسادتي
ألتقيك عطراً
أعانق فيك الوطن
وأطلقك آدم قبل الرحيل
فالهوى سفرٌ وحواء انتظار..
إن جمالية النص المطروح تكمن في كثرة المعاني وتحررها من فضائها، وهذا يعود الى قدرة الخيال عند الشاعرة. ويعد الخيال عنصراً جمالياً مهماً في كل مادة إبداعية، سواء أكانت قصة أم شعراً أم رواية.. الخ. إذ أنه أهم جانب، على اعتبار أنه يميز المبدع عن سواه، فمن يمتلك الخيال سوى المبدع الذي يبحر في عوالمه الإبداعية لينجز لنا منتجاً أدبياً مميزاً.
من جماليات رائدة جرجيس ننتقل الى شعرية (جنان الصائغ)، وهي شاعرة ورسامة تمتلك القدرة على بناء منجز يمتاز بروعة متنقلة بين الرسم والشعر:
تأتي بذنب كبير ثم تعتذرُ
وأنت من فيه ذاك الذنب يغتفر
وأنت وحدك من يمشي.. مهجرة
فيه الضلوع وفيه يسهر السهرُ
علام جئت وصوت الكذب أعرفه
من نبرة الصوت.. حتى الصوت يُبتَكرُ
إحساس عالٍ بالأنثى وجمالية فتاة تعاتب حبيبها. إن هذه اللون يجعلك تعتقد بوجود شعر ذكوري وآخر نسائي، إذ أن بعض النقاد لا يقبلون بفكرة الأدب النسوي، على اعتبار أن الأدب ذو توجه واحد. وقد كتب نزار قباني كثيراً من قصائده معتمداً على إحساس النساء، وكان كثيراً ما يتكلم على لسان الفتاة، ولعل أشهر ما كتبه قصيدة “متى تعرف كم أهواك يا رجلاً أبيع من أجله الدنيا وما فيها”. استطاعت الصائغ أن ترسم لوحة شعرية متمكنة ببراعة.
(غرام الربيعي) شاعرة ورسامة لها حضور في المشهد الأدبي الحديث من خلال مشاركاتها الكثيرة:
بِرمَّتي ألوذُ بقصيدةٍ
عندَ البرد
أحبُّ البردَ جداً
فالأفكار كلُّها ساخنة
كرغيفٍ في فمِ الفقراء
أقضمها بشدة
فكرة غير مرغوبٍ بِها
لكنهُ العشق
هكذا كانَ يستميلُ محبتي
كلّما راوَدَتْهُ الغربة فأحدّثُهُ عن الأمّهات
وما أودعْنَ من قصصٍ طازجةٍ حدَّ القطف
وأحدّثُهُ عن النشيد،
اشتغلت الربيعي على حداثة النص، حيث مثلت “ألوذُ بقصيدةٍ عندَ البرد” خروجاً عن المألوف وكسر حاجز الأشياء من أجل الوصول بالمتلقي المعني بالخطاب الى عوالم الدهشة وفتح آفاق لمخيلته، فالشعر، كما وصفه جان جينيه، بأنه (مجاز المجاز).
(سعيدة السماوي) شاعرة وناقدة تمتلك قدرة عالية في التصوير الشعري:
ذات مساء.. توارى القمر خلف نخلة بيتي..
همس لي.. (بات)
نظرت يميني وشمالي..
أتكلف البحث عن مصدر الصوت.. كطفلة بلهاء ..
تركت فنارات القصور
وسواحل الأمازون..
لتعبث مع طفلة بلهاء..
سرد شعري أشبه بالمسرح الشعري الذي كتبه شكسبير وصلاح عبد الصبور. تحاول سعيدة صناعة مشهد مستخدمه مخيلتها في بناء نص درامي متكامل حيث صورت الذكريات، وكان الصعود بالنص الى سواحل الأمازون، إنها تضع علامة فارقة من أجل الوصول الى عمل مميز.
(انتصار آل فنجان):
أقسم أن أرضى بك بلا مهر
لو أعدت لي بغداد كما كانت
والقدس ودمشق الحرة شامية
ولخضبت بالحناء يدي
ولزغردت لك رغم حيائي
أنا يا أيها العربي أحلم
في قيلولة آب
أو في ليلة شتائية
هناك عناصر عدة يجب أن تتجمع في قصيدة النثر كي تكون قصيدة جيدة مستقلة في كيانها، لتكون عملاً إبداعياً نثرياً، من هذه العناصر الخيال والإبداع وهندسة القصيدة والقضية التي يتحدث عنها المبدع والإحساس الذي يتفرد به عن سواه، كل هذه العناصر إذا اجتمعت شكلت لنا قصيدة حداثوية.