هاملت.. لأول مرة بالعربية بكل هذا الوضوح

1٬880

صلاح حسن/

صدرت قبل أسابيع، عن دار المدى، ترجمة جديدة لمسرحية هاملت التي تعد من أهم المسرحيات التي كتبها شكسبير بتوقيع الشاعر والمترجم العراقي صلاح نيازي المقيم في لندن منذ أكثر من أربعين عاماً. الحديث عن مسرحيات شكسبير بمثابة دعوة للوقوع في الفخ، والحديث عن هاملت بالتحديد هو الفخ ذاته، لأنها قابلة لتأويلات لا تعد ولا تحصى وفيها من الإمكانيات التعبيرية ما لا تجده في أي نص مسرحي آخر. لكن هذه الترجمة التي قام بها نيازي فتحت لنا أبواباً كثيرة لنشرع بالمغامرة ولا بأس بالسقوط في الفخ لأنه على أية حال فخ مسرحي يمكن الخروج منه بعد دفع الثمن طبعاً. ما يميز هذه الترجمة عن سابقاتها أنها بانوراما أو أشبه برحلة في عالم شكسبير كله بدءاً بالثقافي والفلسفي والاجتماعي والنفسي وحتى التاريخي.

تفكيك أعمال شكسبير

تسبق ترجمة المسرحية دراسة طويلة تشغل خمسين صفحة من الكتاب عن التقنيات التأليفية لدى شكسبير وكيف يستخدم الفلسفة والتاريخ والفن في كتابة مسرحياته الشعرية التي لا تخلو أية مسرحية منها من هذه التقنيات. هذه الدراسة في غاية الأهمية لأنها تفكك أعمال شكسبير وتشرحها قطعة قطعة ولا تترك جملة واحدة من دون أن تتناولها بالتشريح الذي يستند على معرفة واضحة بكل ما يتعلق بعمل شكسبير، خصوصاً شرّاحه الانكليز الذين لم يتركوا شاردة أو واردة من دون أن ينفشوها نفشاً.

اللغة الأدبية وحدها لا تفي في ترجمة شكسبير لأنه شاعر مفاهيم وكلماته مصطلحات، فتقنية التكرار على سبيل المثال ليست عبثاً، إذ يقوم شكسبير باستخدام بعض المفردات في بداية أية مسرحية من مسرحياته لتتكرر في المشاهد الأخرى على لسان شخصية مختلفة بحيث تتحول هذه المفردة إلى بؤرة تنبني عليها وقائع هي في صميم التصاعد الدرامي للمسرحية أولاً وفيما بعد تتحول إلى مفاهيم لها قوة المثال.

في مسرحية هاملت، التي هي بمثابة عمل سيمفوني أو لوحة تشكيلية، يجرب شكسبير هذه التقنية التي لم يتخل عنها في أغلب مسرحياته. وهذا ما لم نكن نعرفه أو نلتفت له في الترجمات السابقة لولا عمل نيازي الذي أضاء نقاطاً ظلت معتمة في هذا العمل الذي يتطلب فهمه معرفة الكثير من التفاصيل المخبوءة في لغة شكسبير. ليس من العبث إذن إن تصدر دار “بنغوين” مجلداً ضخماً عن ألفاظ شكسبير.

ترجمة بطريقة شعرية

يضطر المترجم صلاح نيازي في هذه الترجمة إلى إن يعرج على الترجمات القديمة لهاملت من أجل أن يوضح الالتباس الحاصل في ترجمة بعض الجمل التي تحتل أهمية خاصة في النص. ويعقد مقارنة بين هذه الترجمات وما توصل إليه شخصياً بعد مراجعاته الكثيرة لشرّاح شكسبير. هناك مقاطع رئيسية تأتي على لسان هاملت وبعض الشخوص المهمين في المسرحية ترجمت بطريقة شعرية كما تترجم قصيدة منفصلة جعلت المعنى الذي يريده شكسبير الذي يلمح ولا يصرح ، يضيع.

مثلاً هناك جملة مازلت أحفظها عن ظهر قلب منذ عشرين عاماً بترجمة جبرا وهي على لسان هاملت في المشهد الثاني من الفصل الأول تقول : “ليت هذا الجسد الصلد يذوب ويتحول إلى قطرات من ندى” وكنت أفهم من كلمة “الجسد” في هذه الجملة، أنا الذي درس المسرح، تعني الجسد كله، في حين ترجم صلاح نيازي هذه الجملة بطريقة موحية للغاية ومحددة “أوليت هذه اللحمة الصلبة تنحل / تذوب وتحل نفسها إلى سائل.”المقصود من هذه الجملة هو العضو الذكري ومصدر الشهوات التي تدفع الكثير من الناس إلى ارتكاب أفظع الجرائم من أجل تطمين هذه الشهوة الهائجة. هذه الشهوة هي التي تدفع كلوديوس إلى قتل الملك والاستيلاء على العرش والملكة لأن هاملت في هذه المناجاة كان يتحدث عن الخيانة المدفوعة بقوة الشهوة الجنسية الفائرة.

تأويل مسرحية هاملت

يتطرق المترجم صلاح نيازي إلى تقنيات أخرى في المسرحية يعتقد أن عدم الإشارة إليها يسيء إلى فهم النص كثيراً، ونظن أن هذا الأمر هو الذي يدفع المخرجين إلى تأويل مسرحية هاملت تأويلات كثيرة بعيدة أو قريبة مما أراده شكسبير مع أن النص يحتمل كل ذلك. من هذه التقنيات تقنية الشمّ التي يركز عليها شكسبير حين يختار نوعاً محدداً من الأزهار أو النباتات أو مفردات لها علاقة مباشرة بأفعال حياتية معينة مثل ممارسة الجنس أو الأكل والشرب. لكن شكسبير يختار، في هذا الصدد ما يشير بشكل واضح وفي ذلك الزمن، رموزاً تعبّر عما يريد الإشارة إليه بدقة متناهية لا تحتمل الّلبس.

وفي حين ارتبطت الشهوة الجنسية عند هاملت بجريمة عمّه وزنى أمه، إلا أنها مختلفة لدى ليرتس شقيق أوفيليا وبولونيوس والدها كما يقول ليرتس هنا محذراً أوفيليا من طيش هاملت :”أما عن هاملت واهتمامه الطائش / فاحسبيه عاطفة متقلبة، وفورة حسية عابرة / مثل بنفسج قصير الأجل في ريعان تلاقحه / يتفتح مبكراً ولكن لا يدوم، حلو غير دائم / عطر لهنيهة.” وهناك الكثير من الأمثلة التي تركز على حاسة الشم في جميع مشاهد المسرحية حيث ستتطور كلمات ليرتس إلى مفاهيم مهمة مؤثرة في المسرحية. فالطيش سيتطور إلى جموح يمثل العاطفة مقابل العقل، أما الفورة العابرة فستتطور إلى رمز مخيف هو الوهج المرضي. أكثر من ذلك فإن للبنفسج والتلاقح دلالات ترافق أوفيليا حتى بعد موتها. يتقمص شكسبير شخصية هاملت في هذا العمل حيث يظهره شخصاً يعرف العالم طولاً وعرضاً ويضع على لسانه كل خبراته المعرفية التي تكاد أن تكون شاملة بما فيها موهبته في التأليف والتمثيل والإخراج.