هل انتهى العصر الذهبيّ للمسرح العراقي؟
أحمد عبد الحسين/
لم يزل المتابعون يتذكرون بفرح مشوب بالأسى فترة السبعينيات الثمانينيات حين كان المسرح العراقيّ في طليعة التجارب المسرحية العربية، فلم يكد يعقد مهرجان آنذاك إلا وكان للعراق ومسرحييه الحضور الأجلى فيه
يستطيع المتابع تعداد أعمال مسرحية كثيرة شكّلت العلامة الفارقة لنهضة مسرحية عراقية وقتها، كما يستطيع تعداد أسماء بارزة كانوا أيقونات ذلك التميّز وعناوينه.
واليوم بعد أن اجتاز العراق كلّه جهنمات الحروب الداخلية والخارجية واختبر شتى أنواع المحن، لم يسلم الفنّ عموماً من تبعات هذه الحروب والأزمات، فلا يستطيع أحد أن ينكر أن صورة مسرحنا اليوم ليست هي تلك الصورة التي نحتفظ بها في الذاكرة.
ما الذي تغيّر؟ ما الهوية التي ينطوي عليها المسرح العراقيّ اليوم؟ وما سرّ غياب التنظير المسرحي، وما الميزات التي يمكن تلمّسها في مسرحنا، وما هي أهمّ التجارب التي يمكن أن نرفعها علامة على عافية المسرح العراقيّ؟
كنّا نشرنا في العدد الماضي من “الشبكة” رؤى مسرحيين عراقيين حول حاضر المسرح، وفي هذا العدد نستكمل تصفّحنا للأسئلة مع مسرحيَّين بارزين هما الدكتور أحمد شرجي والدكتور صميم حسب الله.
هوية ـ لا هوية
يرى الفنان د. أحمد شرجي أن “هوية المسرح بشكل عام بعدم هويته” ذلك أن “المسرح عابر للهوية بحكم خطابه الإنساني والجمالي، وعندما نبحث له عن هوية جغرافية فكأننا نبحث عن مرجعية حزبية أو عشائرية، في كل الإرث المسرحي العالمي لاتوجد هوية لمسرح ما، لكن هناك هوية مشاريع كما بريشت أو مايرهولد أو آرتو وغيرهم، وهناك هوية ثقافية كما في مسرح النو والكابوكي الياباني”.
ولهذا يرى شرجي أن “هوية المسرح العراقي الحقيقية في أصالته واشتغالاته النوعية المختلفة عبر تاريخه الطويل، حضوره الفاعل في العالم العربي بحكم التقادم الزمني ورسوخه واستمراريته”. ويخلص إلى أن “لكل تجربة مسرحية خصوصيتها في التعاطي مع العرض المسرحي، العراق خصوصيته في الثمانينات والتسعينات امتازت بالمشاكسة لكل ما ينتمي للسلطة، وتونس تميزت باشتغالاتها الجمالية على مستوى السينوغرافيا والأداء التمثيلي، وهكذا فالعرض المسرحي العراقي له حضور وازن في المنطقة العربية وهذا لا يمكن إنكاره، لكن المشكل الكبير – حسب وجهة نظري- ليس المهم (المكانة) بقدر أهمية الاختلاف القصدي في التجربة المسرحية، تجربة تبحث عن الارتقاء بالذائقة الجمعية داخل المجتمع، وتكون مؤثرة أولاً في ثقافتها”.
محاولات تنظيرية خجولة
وحول سؤالنا عن غياب التنظير في المسرح العراقي قال شرجي “هناك خلل كبير في الجانب التنظيري للمسرح في العراق، والساحة تكاد تخلو في القرن الماضي من أي منظّر مسرحي”. ورغم انه أقرّ بوجود “محاولات خجولة تفتقر للمنهجية والعلمية” إلا أنه خلص في النهاية إلى “عدم وجود تنظير للتجربة بحد ذاتها، وقد يكون مرجع ذلك إلى الضعف النقدي منهجياً والذي يقترب من الانطباعات الشخصية والإنشائية، لم يعد النقد مقالة عن عرض مسرحي، بل كتابة إبداعية مجاورة بعيداً عن الكتابة المعيارية”.
ومع ذلك، يستدرك د. شرجي إلى أنه “في العقد الاخير بدأت تظهر ملامح منهجية وتنظيرية عند جيل جديد، يعمل بعقلية تنظيرية مثل الدكتور جبار حسين صبري. ولا أعرف حقيقة ما جدوى الكم الهائل من طلبة الدراسات العليا وحملة الدال في المسرح وهم لا يستطيعون كتابة مقالة نقدية منهجية؟ لم يتساوق النقد والتنظير مع فاعلية وديناميكية التجربة المسرحية العملية، اختفى بخجل خلف كواليسها، انصب الاهتمام بالتجربة العملية فقط، ونسينا التنظير لها”.
سمات المسرح عبر الأجيال
هل هناك سمات ومميزات يمكن اعتبارها ملامح للتجربة العراقية المسرحية؟ يوافق د. شرجي على ذلك مفصلاً القول “امتازت التجربة المسرحية العراقية بمراحل انتقالية منذ تأسيسها وفق المتغير السياسي والاجتماعي للبلد، في السبعينات تخلص من المباشرة والخطابية، وفي الثمانينات تخلص من عشوائية الإخراج وهاوية التمثيل، وبدأ بتشكيل تجربته المميزة من خلال عروض مشاكسة خلقت علاماتها المسرحية بعيداً عن فهم السلطة وخطابها التعبوي، وفي التسعينات استمرت العروض المشاكسة والمناهضة للسلطة وفق خطاب مسرحي جمالي يحتفي بالإنسان، وما بعد 2003 اختلف العرض المسرحي العراقي شكلاً ومضموناً، ساد فيه استخدام اللهجة المحلية لإيصال الوجع اليومي بدلاً من لغة متعالية تهتم بالشكل والصرف والنحو، جيل جديد ذو ثقافة جديدة لا تنتمي الى أي جيل من الأجيال التي سبقتها ولا تنتمي إلا لزمن وجودها، وبالتالي تشكل سمة مهمة في مسيرة المسرح العراقي، إضافة إلى تجربة صلاح القصب في مسرح الصورة لأنها تجربة منفلته في زمنها عماهو سائد آنذاك (وهذه وجهة نظر شخصية)، ولعل السمة الأبرز استمرار وديمومة المسرح العراقي ورجالاته برغم كل الظروف التي يمر بها البلد، وتواصل الكثير منهم بالعمل برغم العمر مثل أستاذنا سامي عبد الحميد، لكن ما يؤسف له هو توقف الكثير من المسرحيين الذين نشطوا مسرحياً قبل 2003، ولكن بعد التغيير توقفوا نهائياً ولأسباب ليست مقنعة برأيي، وكأن نشاطهم مقترن بفترة زمنية محددة”.
هيمنة
الدكتور صميم حسب الله رأى أن هناك “مراحل عدة شهد فيها المسرح العراقي نهضة على المستوى الفكري والجمالي أسهمت في تحديد هويته التي ميزته عن غيره من المسارح العربية حتى بات واحداً من التجارب المسرحية المغايرة للتجربة العربية مع نظيره التونسي”، لكنه يستدرك بالقول “إن تلك المراحل لم تستمر طويلاً ويعود ذلك إلى هيمنة السلطة على الحركة الثقافية عامة والمسرح خاصة، الأمر الذي تحول معه المسرح العراقي إلى شكل ثقافي وليس ظاهرة إجتماعية”.
سفينة في بحر هائج
يوافق الفنان حسب الله زميله شرجي حول غياب التنظير المسرحيّ بالقول “إذا ما أردنا البحث عن معنى التنظير المسرحي (بمعناه الأركيولوجي) الذي يتمثل في الحفر داخل الظاهرة المسرحية واشتقاقاتها المعرفية، فإن المسرح العراقي يفتقر إلى حفّارين (بالمعنى المعرفي)، إذ يتطلب ذلك مغادرة توصيف الظاهرة واجترار المصطلحات وإعادة تصديرها من دون الحفر في مرجعياتها، وهو الأمر الذي يفترض به أن يقع على عاتق الحركة النقدية الغائبة عن الفعل النقدي / المسرحي، ذلك أن نجاح الظاهرة المسرحية يعتمد على نحو أساس على توافر حركة نقدية تعمل على نحو محايث لما يتم إنجازه على خشبة المسرح أو على مستوى التدوين النصي، وبغيابها فإن المنجز المعرفي يظل سفينة مجهولة الهوية في بحر هائج”.
الفترة الأصعب
يرى حسب الله أن المسرح العراقي يعيش أصعب فتراته وأكثرها حرجاً على المستوى الإنتاجي “إذ يعاني المسرح العراقيّ من الإهمال التام للبنية المعمارية وعدم رغبة الدولة في إعمار البنية التحتية للمسرح العراقي والمتمثلة بالمسارح التي تعاني من الإهمال منذ سنين ابتداءً من مسرح بغداد وليس انتهاءً بمسرح الرشيد الذي بات الحديث عن إعماره ضرباً من العبث أو الكوميديا التي لاتضحك أصحابها”.
تجارب مؤثرة
يؤكد حسب الله “إن المسرحيين مستمرون في تقديم تجاربهم التي يمكن عن طريقها الخروج ببعض السمات التي يمتاز بها المسرح العراقي، إذ شهد بعد عام (2003) توافر عروض فيها حرية غابت قبل ذلك الزمن، الأمر الذي سمح للمسرحيين بالتعاطي مع بعض المضامين المسكوت عنها على المستويات الإجتماعية والسياسية والدينية، لكن سقف تلك الحريات بدأ بالانخفاض في السنوات الأخيرة، محاولات الشباب للتصدي للمشهد المسرحي تعود إلى غياب جيل المسرحيين الكبار من أمثال (سامي عبد الحميد، فاضل خليل، صلاح القصب، وغيرهم).
ويختم د. حسب الله حديثه بالقول “إن بعض التجارب كان لها حضور فاعل لاسيما تجارب (هيثم عبد الرزاق في فرنسا وألمانيا، وتجربة مهند هادي في بغداد وتونس) وتجربة المخرج مصطفى الركابي التي أثارت جدلاً كبيراً في تقديمه لمسرحية (يارب) التي كتبها (علي عبد النبي الزيدي) .. والتي أسهم في نجاحها مشاركة كل من الفنان (فلاح ابراهيم) والفنانة (سهى سالم) في تجسيدها، وجميعهم أسهموا في التشارك مع جيل من الشباب الذي لم يزل بحاجة إلى تلك المشاركات من قبل فنانين محترفين يشهد المسرح العراقي لهم بالتألق، وغيرها من التجارب المسرحية المثيرة للاهتمام”