هل انتهى زمن الصحافة الورقية؟
جبار عودة الخطاط /
هل انتهى زمن الصحافة الورقية أو شارف على الانتهاء؟! سؤال عريض يفرض نفسه على واقع الصحافة العربية التي باتت تعاني اليوم أكبر (أزمة وجود) عرفتها في تأريخها وهي أزمة في جانبها الأكبر تتصل بمسألة التمويل الذي غابت معطياته المادية عن صحف عريقة، فحاولت البقاء متشبثة بحلول مؤقتة، غير انها استسلمت أخيراً واتخذت القرار الصعب وتوقفت عن الصدور! وهل للموضوع صلات أخرى تنفتح على (هوية) تلك الصحافة في ظل الاستقطاب الذي سنورد تفاصيله،
فضلاً عن تأثير (صحافة) المواقع الإلكترونية والسوشال ميديا (التواصل الاجتماعي) وما باتت توفره من معلومة سريعة بغض النظر عن مستوى ومهنية تلك الوسائل؟
أزمة غير مسبوقة
الأزمة باتت الهاجس الأكبر للصحفيين في مصر ولبنان ودول الخليج وهي الدول التي عرفت بعراقتها الإعلامية، فهل هي أزمة تمويل فقط أم ان الأمر يتعلق بهذا الفضاء المعلوماتي الهائل الذي فرضته ثورة الشبكة العنكبوتية لتحجم مساحة الاهتمام بالصحافة الورقية؟
مراقبون ذهبوا الى أن انحسار المال السياسي عن الكثير من الساحات الإعلامية قد ألقى بظلاله الكثيفة على واقع الصحافة التي فقدت الرافد الأكبر لتمويلها في زمن تعصف به أزمة مالية كبرى فتوقفت صحف عريقة بعد ان وجدت نفسها في وضع لا تحسد عليه. فيما عمدت صحف أخرى الى حلول جراحية صعبة فسرحت أعداداً كبيرة من كوادرها وقلّصت صفحاتها في محاولة منها لتمديد عمر مقاومتها لما بات يتهددها بالموت، ولو بعد حين.
التحدي وعلاج الكيّ
بسبب هذه الأزمة، والتدنّي الخطير في توزيع نسخها الورقية، اتخذت صحفٌ عالمية، مثل “الإندبندنت” البريطانية، قرار الاكتفاء بالتواصل عبر موقعها الإلكتروني، والتوقف عن الإصدار الورقي. ويبدو ان علاج الكيّ لصحفٍ كبرى في العالم هو توجه مستقبلي للكثير من تلك المؤسسات والصحف لا محالة.
في الوطن العربي، تمظهرت هذه الأزمة في لبنان والعراق ودول الخليج ومصر والمغرب العربي حيث يبرز المال السياسي كعامل رئيس في ديمومة الصحف، أما الإعلانات والمبيعات وحتى الاشتراكات فهي عامل مساعد في ضوء حالة التراجع الاقتصادي التي اجتاحت دولاً عدة فعمدت الى إجراءات تقشفية كان من جملتها انحسار المال السياسي عن الصحافة!
التمويل مشكلتنا الأساسية
إذن المشكلة الأساسية هي التمويل، مما جعل الكثير من الصحف مرتهنة بما يملى عليها من أجندات الممولين. وربما استطاعت صحف معروفة خلق موازنة وفقت فيها الى حدود مقبولة في المقاربة بين طرح الحدود الدنيا من املاءات الممولين والحرص على خطاب إعلامي فيه مقدار من الحصافة بحيث لا تهوي في مزالق الجهات الممولة. ولعل تجربة جريدة السفير اللبنانية خير مثال، فقد استطاعت فرض خطابها المهني رغم ضغط عامل الاستقطاب من قبل الممول، في حين كانت التجربة تختلف في دول الخليج بحيث تحوّلت -بشكل متفاوت- اغلب تلك الصحف والوسائل الإعلامية إلى مضخات تعبوية للضخ السياسي والطائفي.
هي معادلة تنطوي على الكثير من الصعوبة والتعقيد: الحصول على تمويلٍ كاف، والحفاظ على مقدار من الاستقلال، هما أمران ليسا بالسهلين ، لوجود الكثير من التابوات وما تعرف بـ (الخطوط الحمر)!
“السفير” أول الغيث
خبر توقف جريدة السفير اللبنانية، وما ينطوي عليه من دلالات صادمة لا يزال يتفاعل بارتدادات تلاحق صحف أخرى ويبدو انها عمدت للحيلولة دون الوصول لنفس المصير الى اسلوب صرف العاملين والتقليص الكبير للصفحات وتأخير الرواتب لضمان استمرارها، وهو الأمر الذي لم يعد يضمنه أحد ! وهو ما عبر عنه رئيس تحرير صحيفة “اللواء” صلاح سلام بالتشاؤم الذي يحيط بمستقبل الصحافة الورقية في لبنان، التي يراها سلام في “مسيرة تراجعية منذ الحرب الأهلية حتى اليوم.”
فالإعلانات هجرت الصحافة، وانحسر مردودها.. كشفت أستاذة الإعلام في الجامعة العربية الدكتورة ايمان عليوان “أنه على المستوى العالمي احتكر موقع فيسبوك ومحرك البحث غوغل نحو 98% من سوق الإعلانات الإلكترونية”.
التهديد وجرس الإنذار
“هل يمكن أن نتصوَّر لبنان بلا صحافة وهو البلد الذي كان رمزاً للنهضة الصحافية في العالم العربي؟ هذا السؤال طرحه الكاتب اللبناني المعروف الياس خوري محذرا من التداعيات.
جريدة النهار العريقة هي الأخرى تعاني أزمة مالية خانقة منذ سنتين فسرحت العشرات من صحفييها لمواجهة الأزمة، الأمر ذاته ينسحب على جريدة المستقبل وغيرها. كما عاش الموظفون في مكاتب جريدة «الحياة» اللندنية في بيروت في وقت سابق حالة ضبابية بشأن مستقبلهم، وخاصة بعد استقالة رئيس التحرير غسان شربل وانتقاله إلى “الشرق الأوسط.”
عراقة الصحافة اللبنانية
المتابع للصحافة اللبنانية يدرك بأنها كانت تمثل الثقل الأكبر في مسيرة الصحافة العربية، وما تمر به اليوم من أزمة يرسم الكثير من علامات التعجب والألم. يؤكد محمد فرحات، مدير تحرير صحيفة “الحياة” الصادرة في لندن: إن “أزمة الصحافة اللبنانية جزء من أزمة لبنان، وحياة الصحافة نابعة من السياسة، وفي حال ماتت السياسة ماتت الصحافة”.
فيما يقول طلال سلمان، مؤسس ورئيس تحرير “السفير” التي تأسست عام 1974 قبل عام واحد من بدء الحرب الاهلية (1975-1990):
“لم تمر الصحافة في لبنان، الذي لطالما كان رائداً على الساحة الإعلامية العربية، بأزمة بهذه الشدة من قبل. إنها أسوأ الأزمات على الإطلاق”.
ويوضح الأستاذ في كلية الإعلام في الجامعة اللبنانية احمد زين الدين: “الصحافة العربية عموماً واللبنانية تحديداً ليست صحافة جمهور ولكنها صحافة تمويل تقوم على الإفادة من جهات سياسية او اقتصادية.”
تراجع المال السياسي
عميد كلية الإعلام في الجامعة اللبنانية جورج صدقة يقول:”فقد الإعلام اللبناني تأثيره وتراجعت سلطته ما يعني تراجع الفائدة منه بالنسبة للأنظمة العربية التي كانت تموله، فهي لم تعد بحاجة الى وسيلة لبنانية لتمرير رسائلها بل تعمد مباشرة الى تمويل وسائل خاصة بها.”
وقد وصف الكاتب الصحفي اللبناني أحمد ياسين أزمة الصحافة الورقية وتوقف السفير بـ”الأمر الحزين”، فيما أفادت الكاتبة زكية الديراني “ان الأفق بدا مسدوداً بالنسبة إلى الصحف اللبنانية والعاملين فيها فالمناخ الذي يخيّم على الصحافة الورقية سوداوي، إذ تدلّ المؤشرات على مطبّات وتحديات ستشكّل هزّة قوية.