هل تعرفون ابراهيم عبد الله الجنابي ؟
عامر بدر حسون/
في 20-8-1985 نشر ابراهيم عبد الله الجنابي قصة في جريدة الثورة الناطقة بلسان حزب البعث.
كانت القصة بعنوان “داخل إطار الذاكرة”.. وأتذكر جيداً أننا تناقشنا فيها كثيراً، وكيف مرت على الرقيب؟ وهل كان الرقيب غبياً أم متواطئاً مع الكاتب؟
لم نجد إجابة حاسمة، لكن الإجماع كان أن الكاتب هو من دون شك أحد أبطال الثقافة والحرية في العراق!
يومها كان النقاش بين المنفيين عمّن يمثل الثقافة العراقية يومذاك:
“جماعة الداخل” أم “جماعة الخارج”؟
وكان البعض من المثقفين ضد ثقافة الداخل على طول الخط وبأكثر الأشكال حدّة.. كنت ساذجاً في تمنياتي بكون ثقافة الداخل الواقعة تحت سلطة صدام وعدي وخدمهما يمكن أن ينتج منها خير.. وكان البعض صارماً في حكمه الصائب:
لاخير يرتجى منها.. والربيع لأياتي بسنونو واحد!
من هو ابراهيم عبد الله الجنابي؟
سألت وفتشت عنه كثيراً فلم أعثر له على أثر.. فغالبية المثقفين والنقاد يومذاك كانوا مشغولين بالتسابق على نيل جائزة ما من جوائز الولاء لصدام..
لكن لنؤجل الحديث عن هذا الأمر ولنمنح أنفسنا فرصة قراءة قصة تتحدث كل تفاصيلها عن قسوة العم (صدام دون شك)!
أرجو ممن يعرف هذا الكاتب البطل، بالنسبة لي في الأقل، أن يعرفنا عليه لنحتفي به تقديراً لبطولته في ذلك الزمن الأصعب..
اترككم الآن مع القصة:
قصة الأم – الوطن.. وقصة العم – الحاكم القاسي.. ونبوءة الكاتب بصعوبة عودة الابن الهارب بعد هلاك العم.. وهي على قِدمها كأنها كتبت للتو او كأنها ستكتب غداً في جزء منها!
قصة قصيرة
داخل إطار الذاكرة
ابراهيم عبد الله الجنابي
مزقت غلاف الرسالة بلهفة وخوف وهي تدرك تماماً أن هذه الخطوط ما هي إلا خطوط ولدها المغترب.. ولدها الذي لم يبعث أية رسالة منذ تلك الليلة المشؤومة التي أعلن فيها الهروب.
وهي تقدر الأسباب جيداً..أمسكت ورقة الرسالة بيديها المرتعشتين وبدأت تقرأ:
“أمي الحبيبة..
هل أجد نفسي ملاماً.. هل أجد نفسي مقصراً او مخطئاً حين اتخذت قراري ذاك؟.. هل تجد الدموع طريق الوصول إليك وهل تفي بما أريد وتغطي ما أنا فيه من غربة وتيه لا يوصفان فأبدو مثل ملّاح تائه كسر شراعه؟
أماه.. ربما أُلام وربما أُزجر ومن حقكم ان تلوموني وتزجروني لأني لم “أتكرم” وأرسل خطاباً واحداً يخفف بعضاً من قلقكم، واعترف صاغراً بتقصيري.. لكن الخوف يا أمي هو الذي أجبرني على حفظ كل رسائلي التي كتبتها.. فأنا أدرك أن الساعة التي يجد فيها خطاباً بين يديك هي ساعة نحس ووبال.. والله يعلم ما تؤول اليه..
أماه لم يكن يطيق مجرد ذكر اسمي أمامه فكيف وخطاباتي تقع فريسة بين يديه؟
ياه كم كان شرساً.. عنيفاً.. ضيق الأفق.. متهوراً لا يتفاهم بأية طريقة.. عذراً يا أماه فأنا أعلم أن حديثي عنه وهو غائب ذنب كبير، وأعلم أيضا أنه مسجى تلتهمه الديدان أسراباً أسرابا.
لكن يا أماه.. صغر كل شيء أمامي وتلاشى: السنون التي حسبتها حلماً سرمدياً، مررت بها فوجدتها أُسوداً تزمجر أن ابتعد!
سكنت الأشياء وسكتت.. تكسرت وأصبحت هشيماً، تحول الزمن فجأة الى اخطبوط أسود هائل يمد أرجله الطويلة ليمسك من يراه قريباً ويخنقه.. تغير الهواء يا أماه فما عاد هواء منعشاً كما عهدناه.. صار تراباً ممزوجاً بالسم ينفخ من يقاربه ويفسخه!
صرت يا أماه لا أحمل غير مرارة سنين حمر.. خمسة عشر عاماً يا أمي أحس بشوكها يوخز جسدي، أحس بلهيبها يأكل رأسي.. أهابها.. أرتجف منها..
أتدركين يا أماه؟
أرتجف منها!
جاءنا عمّنا بعد موت أبينا ليحفظ شرف أم وثلاثة أطفال.. ما أكبر المأساة في حينها وما أقساها.. إخوة ينتظرون عشاءهم وهو متشبث بإمهم يجبرها أن تسد الباب في وجوههم!
إخوة يصارعون الخوف بإيدٍ نحيلة وهو يلوي ذراعك ومن ثم يركلك لمجرد ان تفارقيه لحظة!
لا.. لا.. رحل والحمد لله كفاكم وكفاني شرّه وأنا في حقيقة الأمر لم أكن أطيقه بل لا أذكر أنني فكرت في أن أحبه.. أحبه؟ كيف أحبه؟
أماه .. يا أماه أعلم أنك تذرفين دموعك بسخاء وإنني لأراك الآن أمامي.. تحاولين ان تمسحي دموعك الساخنة عن وجهك الذي تسابقت وصفعات عمي على تشويهه.. أسمع حشرجاتك وأنت تحاولين كتم نشيج بدا يعلو شيئاً فشيئاً رغماً عنك.
أنا لم أذنب.. لا ولم أرتكب خطيئة وإني لواثق الآن أن مافعلته لهو أمر عادي جداً.. كل ما فعلته أنني تأخرت قليلاً خارج البيت.. أتراه جرماً ولا أدري؟
وحين عودتي فوجئت به ينتظرني حاملاً سلاحه الفتاك “خيزرانة” بيده وعيناه يتطاير منهما الشرر.. كنت أحدس أن شيئاً غير مألوف سيحدث.. المهم أنني تسمّرت في مكاني لمّا بدأ يصرخ ويسألني عن سبب تأخري.. كدت أجيبه.. نعم صدقيني كدت أجيبه لولا أنه رفع يده إلى الأعلى وهوى بالعصا على رأسي..
لم أر الدم في حينها إلا بعد ساعات.. رأيتك تدفعيه بكل قوتك باكية لاطمة نادبة.. وهل تملكين غير هذا؟
أجهز علي واستمر في ضربي حتى أسقطني أرضاً.. ركلني بحذائه الضخم، لمحتك تهجمين عليه بكل قوتك صارخة:
– بالله عليك كفى.. دع في قلبك شيئاً من الرحمة بالله عليك!
فما كان منه إلا أن “أشفق” علي وبدأ يضربك بقسوة أشد!
رماك أرضاً.. جرّك على الأرض من شعرك.. لم أتحرك!
استمر في ضربك.. لم أتحرك!
توقف عن ركلك قليلاً وما إن حاولت النهوض مستعينة بيديك الاثنتين حتى ركلك بقدمه على عينك ركلة.. لا أدري.. المهم أنني أذكر الآن ذلك السائل الأبيض الذي غطى وجهك حينها!
أماه اعذريني فقد نفد صبري، تقدمت منه.. استجمعت كل قواي و.. صفعته.. نعم صفعته فسقط على ظهره، كسرت هذا القيد الأبدي.. حطمته!
صورتك يا أمي محفورة في ذاكرتي وإني لأبكيك.. أبكيك بكل جوارحي وأنت تغطين عينك المصابة بيد وباليد الأخرى تحاولين منعه من أن يلحقني.
تلك يا أمي كانت الصورة الأخيرة من مسلسل ذاكرتي:
أم تفقد عينها!
شاب يصفع ويختفي ويهرب!
إخوة اثنان لا يدري مصيرهما..
شوق.. خوف.. موت..حب من جديد.. إحباط!
أماه!
أماه أكره الماضي.. أكرهه وأحقد، بل وأبصق عليه!
لكن هل من خلاص ينجيني ويخفيني عن شبحه الذي ما عاد يفك ولو لحظة واحدة ذاكرتي ليبقيني رهين المأساة.. المأساة التي كادت تقتلني.. وأنا أهرب.. أهرب يا أماه!
أهرب منه فلا أملك شجاعة ولا قوة.. أسقط.. أعاود النهوض فأسقط من جديد.. وأسقط .. وأسقط ولا أدري أتراني أنهض ثانية؟!
عيناه الغائرتان أتخيلهما وهو جالس قرب الباب يحمل عصاه الطويلة.. أتخيله يرقبنا كقطعان من الماشية لها وقت محدد للرعي فلا زيادة ولا نقصان.. أبداً! أسمع صوته مرعباً:
– إلى أين؟
– ا.. الـ .. الى المرحاض يا عمي!
يحدق فيّ.. يعبس ثم يصرخ:
– بسرعة!
أذهب راكضاً.. أعود راكضاً وانا خائف فلربما أخطأت في شيء، تأخرت في شيء.. نسيت ويا ويل من يرتكب آثاماً كهذه! ياويل من يتطاول ويبحلق ولو للحظة واحدة في وجه عمه!
ياه.. يا لهول ماضيّ!
أماه.. الآن وقد رحل.. وكفانا شرّه.. بربك خبريني، أما زالت عصاه مؤلمة؟
أما زال صوته مرعباً مدوياً قاسياً؟
هل يطرد الديدان الزاحفة نحوه بتلك العصا؟ هل يخيفها بنظراته كما أخافنا؟
فليذهب الى الجحيم! دعيه يرحل!
ليرحنا.. ليفك عنا!
الله يعلم.. وحده يعلم أن الأمور ما كانت لتسير على هذه الشاكلة.. بلى يا أماه!
فلو لم يرحل لكان لزاماً علي آجلاً أم عاجلاً أن.. أن.. أن أقتله!
أماه.. تلك هموم جالت وتخبطت في كياني وها أنذا أبوحها لك.. فعسى ان يحول هذا شيئا من ذاتي.. ذاتي المنكسرة.. المهشمة!
أماه.. ربما أعود.. ولكن هل لعودتي قيمة؟
نعم قد أعود لكن عودتي ستكون بصمت.. صمت تام.. صمت مرعب.. والى تلك اللحظة.. تقبلوا أنت وإخوتي تحايا من نفس بعيدة.. بعيدة.. صاغرة.. وجلة تبحث في الوجوه بلا جدوى..
حتى تلك اللحظة سأؤقلم ذاتي.. عسى ان يؤقلم ليوم جديد.. لا ندري ما يحمل.. لا ندري.. سلاماً أماه”!
بيديها اللتين ازدادتا ارتعاشاً طوت الرسالة ثم وضعتها في جيبها.. اختارت كرسياً قديماً جلست عليه وعادت تبكي من جديد!
جريدة الثورة – بغداد 20-8-1985