هندسةُ الشعرِ والتداولُ الرقمي لعصرِ الحداثة

1٬184

د. علي هادي آل مطروح /

لا حدود لهندسة التشكيل الشعري ولا نهاية لوظيفته وتطوره وامتداده ، فهو لم يقف عند بحور الخليل ولم يبقَ باكياً على الطّلل البالي ولم يعتصم الغموض المعتم ولا اعتكف التصوف نهجاً ولا الفلسفة ثوباً؛ تجدد مع كل حقبة تاريخية بما يتلاءم مع أذواق أفرادها ومنطلقاتهم من حيث (الشكل والمضمون) وتغيرت هندسة الشعر عما كانت عليه في الماضي، لكنه ظل على متون الدواوين حبيساً ولم يتحول صوب التداول الرقمي الحداثوي الذي يعتبر لغة العصر بامتياز، فالشعر ليس وزناً وقافية فحسب كما يعرفه السواد الأعظم من النقاد، وليس سجلاً للماضي بنطاقه المحدود، فالشعر نبوءة المستقبل حين يكتب الشاعر عما سيحدث لا ما حدث، وهذه النبوءة إما أن تصيب وتتطابق مع مفهوم التاريخ أو لا تصيب وتبقى للعبرة والاستمتاع ، وهذا لا يعني أن كل كتابة متجردة من الموسيقى تعد شعراً. من هذا المنطلق يظن البعض أن كتابة الشعر أصبحت أمراً ميسوراً ومتاحاً للعامّة!!..لا الشاعر له فطرة إلهية في تحريك الإحساس وتفعيل الشعور وتمتع المتلقي وتوجهه بالمضمون (القيمي) أكثر مما عليه في الشكل(اللفظي)، فلا بد أن تستغل هذه السِّمة في تربية الجيل، إذ يحاول الشاعر نقل واقعه إلى العامّة مع تصويب بعض الرؤى الخاطئة المتداولة بذوقه الرفيع وزرع شعوره الفذ وأحساسة المرهف في نفوس المتلقين عبر عنصر التأثير، فالشاعر هو المعلّم الأول للذوق وللتاريخ وللأدب ويجب أن يكون الأول أيضاً في تضمين القصيدة لقيم ومبادئ أخلاقية تزرع في الناشئة عبر طريقة مشوقة ومتداولة بين لغة هذا العصر.
فالشاعر ابن بيئته وأمته، وكما معلوم لكلّ أمة تاريخ وثقافة وقيم ومبادئ ومنطلقات ونكهة خاصة تميزها عن باقي الأمم، وتتجلى هذه المنطلقات في السياقات اليومية لتلك المجتمعات ويتوارثها الأبناء عن الآباء سابقاً بشكل تلقائي ضمن مستوعبات اللاوعي الاجتماعي للأمم أو عبر التفاعل الملموس بين شخصياتها المختلفة أو عبر قراءة التاريخ والأدب في متون الكتب، لكننا اليوم نعيش في دوامة عالمية وصراع رقمي تكنولوجي طاغٍ على التداولات الملموسة والتفاعلات الفعلية التي لخصت تلك السياقات الاجتماعية في أرقام وكتابات على شاشات ملموسة وفي فضاءات متحررة من قيود الانتشار وقائمة على التداخلات الثقافية وعبر بوابات الأثير المطعمة بكل أساليب التشويق والجذب، وكلنا نعلم اليوم أن لامحال من إبعاد هذه الثورة الرقمية عن متناول الأجيال القادمة ولابد من مواكبة لهذا العصر مع الحفاظ على القيم والمبادئ والأخلاقيات الخاصة لأمتنا، وأن ما يعرض على مواقع السوشيال ميديا لا ينتهي عند اللغة وحدها للتلقي والتأثر بها وانتشارها وتداولها عند المجتمعات الآنية، ما لم تكن قد مزحت بصورة مشوقة أو بصوت شجي أو بتصوير فيديو أو الجميع معاً، وهنا لابد من تضمين الشعر كل هذه القيم والمبادئ وتفعيل دوره في بناء الجيل في محاولة جادّة لإخراج الشعر من قيوده المزمنة المتعلقة بالوزن والقافية مع الاحتفاظ بموسيقاه الجاذبة والأهم من ذلك تحريره من القراءة النخبوية ومن بطون الدواوين وأروقة المكتبات ليأخذ دوره الرقمي الإلكتروني في الحفاظ على الإرث الثقافي للأمة عبر (تصويره وإلقائه في مواقع التواصل الاجتماعي بمونتاج لغوي خاص وبتقنية تكنولوجية مؤثرة ليتداوله الجيل بمتعة وسهولة ويطلع على إرثه الثقافي والاجتماعي بشكل ممتع) .