وجبة الفكاهة الخفيفة الساخنة..

82

رضا المحمداوي/
في التجربة الفنية التي خاضتها الدراما العراقية خلال عقود طوال من عمرها الفني، ما زلنا نقول ونعيد القول مراراً وتكراراً إن الكوميديا أصبحتْ لدينا، لأسباب عديدة، فناً صعباً، إذ لم نتمكن من إثبات جدارتنا في تناولها ومعالجتنا لموضوعاتها، أو في إنتاج نماذج درامية فنية يمكن أن نقيس عليها، أو نتخذها مثالاً يُقتدى به، باستثناء الحلقات القديمة لمسلسل (تحت موس الحلاق) للفنانَين القديرين، سليم البصري وحمودي الحارثي، التي أُنتجتْ في بداية العقد الستيني من القرن المنصرم، وتُعدّ من أقدم المواد التلفزيونية الأرشيفية المحفوظة بعد تأسيس تلفزيون بغداد عام 1956.

كوميديا ناضجة
وإذا كنا قد نجحنا في السنوات الأخيرة في إنتاج وتقديم الميلودراما العراقية الجديدة، التي وصفتُها ذات مرة بأنها هجينة وعبارة عن خليط من الميلودراما المصرية والهندية مع لمسات تركية، فإننا بالمقابل فشلنا تماماً في صناعة أو إنتاج كوميديا عراقية ناضجة، ملتزمة، جادة في طرح موضوعاتها ومعالجتها، أو صاحبة قضية أو موقف أو فكرة سديدة. لذلك، ومن أجل ملء الفراغ وإشباع الحاجة الفنية المتزايدة لهذا النوع من الدراما التي تحتاجها شاشة التلفزيون، في الموسم الرمضاني على وجه الخصوص، يلجأ صناع الدراما لدينا الى تقديم أعمال درامية (فكاهية) هزلية أو (دراما خفيفة) ولا أسميها (كوميدية) بالمعنى الأكاديمي المعروف والمقابل للـ (تراجيديا).
تقوم هذه الدراما الفكاهية – الخفيفة على كتابة ما يعرف بـ (السكيتشات) الدرامية، وهي عبارة عن فقرات متعددة منفصل بعضها عن بعض، وبطابع متنوع يجري تصوير مشاهدها داخل الستوديو، بديكور بسيط مع عدد محدود من الممثلين.
وقد عمل عدد من الفنانين الكوميديين المعروفين على تكريس هذا النمط الفني وعُرفوا به من خلال بعض القنوات التلفزيونية التي دأبتْ على إنتاج هذا النوع الفني.
لكن من عيوب هذه الـ (سكيتشات) الفنية، سرعة انزلاقها، بسبب خفتها وعدم رصانتها، إلى التهريج أو الإسفاف، لتفقد اتزانها، ويجري تفريغها من أية حمولة فنية أو فكرية أو حكمة أو موعظة أخلاقية، وبعدما تعرض أمامنا على شاشة التلفزيون سرعان ما يلفُّها النسيان ولا تترك أي أثر فني. وهذا النمط أو النوع الدرامي الهزلي (الخفيف)، الذي يصل إلى حد الفراغ الدرامي، غالباً ما يواجه بسيل من الأسئلة عن جدوى إنتاجه وتقديمه، وربما يثير أحياناً السخرية أو الامتعاض من قبل الجمهور العراقي العام.
اللجوء للتجريب
لا ننكر أن لدينا ممثلين عُرفوا بالأداء (الكوميدي)، لكننا مع ذلك نفتقد النص (الكوميدي) الذي ينهض بذلك الفنان إلى مواقع الخصوصية والحضور الفني المميز، وهذه النقطة بدورها تسحبنا إلى قضية المؤلف أو الكاتب الدرامي المتخصص بالفن الكوميدي، فنحنُ بشكل عام نفتقد مثل هذا النوع من المؤلفين، ولم يبرز طوال السنوات الماضية أي كاتب متخصص بالفن الكوميدي. وللتعويض عن هذا الغياب والفقدان تلجأ القنوات الفضائية غالباً الى التجريب والاجتهاد والمحاولات الفنية، لتجد ضالتها أخيراً في تلك (السكيتشات) التي تحدثتُ عنها آنفاً.
ونتيجةً لهذا النقص الواضح، والغياب الدائم للنص الكوميدي ببنائه الدرامي وشخصياته ورسالته الضمنية، اضطر بعض الممثلين لترك الساحة الفنية، بعد أن يئسوا من الحصول على النص الكوميدي الذي يكرّسهُ فنان كوميدي ناجح، فقد اختفى أولاً الفنان لؤي أحمد عن الشاشة الكوميدية منذ سنوات، وبعده أنسحب الفنان القدير قاسم الملاك منذ أكثر من أربعة مواسم متتالية من سباق الدراما الرمضانية، ليفسح المجال واسعاً لغيره من الفنانين الذين حاولوا إشغال الفراغ بأعمال لم تنجح حتى الآن بإثبات جدارتها النوعية ونجاحها الجماهيري.
فعلى سبيل المثال لا الحصر، عاد الممثل القدير إياد راضي في عمله الجديد (أبجد هوس) للمخرج أمجد زنكنة، دون أي تقدم يذكر، إن لم يكن قد تراجع خطوة إلى الوراء، نتيجة لعدم توفيقه في اختياره لنص (محمد قاسم) الركيك، القائم أساساً على التقليد الفج للعمل الكوميدي الخالد للراحل سليم البصري (تلميذ مسائي) ضمن حلقات مسلسل (تحت موس الحلاق)، الذي يدور ضمن مفارقات و (قفشات) مجموعة تلاميذ حملة محو الأمية في ستينيات القرن الماضي، وكان مع (البصري) في تلك التمثيلية كل من حمودي الحارثي وخليل الرفاعي وراسم الجميلي وغيرهم.
في حين أن الفنان القدير إحسان دعدوش، ما زال يراوح في مكانه ويكرّر نفسه في العمل الفكاهي (حامض حلو) منذ أكثر من أربعة مواسم متتالية، رغم إجادته وتفننه في تأدية الشخصيات المتعددة والمتنوعة التي يقدّمها في عمله بمساعدة مجموعة الممثلين الذين معه.
إشاعة المرح
ومن أجل ألا أظلم أحداً ولا أحمّل الأشياء ما لا تحتمل، يتوجب عليّ التأكيد، هنا، على فكرة مهمة جداً، وهي أنّ جميع هذه الأعمال التي تندرج تحت عنوان (الفكاهة) و(السكيتشات) الدرامية، وقد أنضم إلى قائمتها مؤخراً البرنامج الدرامي (قط أحمر) للفنان أحمد وحيد، تجري عمليات كتابتها وتمثيلها وإنتاجها بهدف المتعة والتسلية والترفيه وبث النكتة والطرافة وإشاعة المرح، ودائماً يكون توقيت عرض هذه الأعمال مع موعد الإفطار المسائي في رمضان، ومن هنا يمكن تشبيه هذه الأعمال على أنها بمثابة صحن الحساء الساخن!!
والسؤال هنا بهذا الصدد: هل نكتفي بالنظر إلى هذه الأعمال الفكاهية الخفيفة على أنها مجرد (صحن حساء) لا أكثر؟ أَمْ أنّ الضرورة الفنية، وحاجتها للأفكار والقيم والاعتبارات، ستبقى قائمة تدفعنا للنظر إلى تلك الأعمال الفكاهية من زاوية أخرى، ومحاكمتها اجتماعياً وفكرياً وأخلاقياً، ولا أقول نقدياً، لأنّ الحقل الأخير سوف يصعّب عملية التلقي، ويجعلها ثقيلة جداً على كل الفنانين العاملين فيها وعلى الجمهور العام نفسه أيضاً.