ورشة ألمانية لتدريب الشاعرات في البصرة

832

طالب عبد العزيز/

تقوم المديرة بتوزيع الطالبات على شكل ثلاث مجموعات، ثم تطلبت من كل واحدة كتابة انطباعها عن الأخرى، من خلال النظر حسب، دونما توجيه أسئلة، بالفراسة.. ومن ثم معرفة مدى صحة ما كتبت بعد ذلك.. ثم تطلب منهن كتابة حروف اسمائهن، ووضع صفة من صفاتهن عن كل حرف، وتطلب منهن كتابة نصٍّ مستوحى من صفاتهن
. وبعد ذلك، تقوم كل واحدة من المجموعة باختيار حرف تحبه، وتكتب كلمة به، ثم تجمع الكلمات في نصٍّ. اعطتهنَّ جملة ما. وعندما رنَّ الجرس.. أعطتهن نماذج من نصوص. دار حديث حولها، وجرى خلاف وتعمّق حوار.. نصوص ناقصة يقمن بإكمالها، وأخرى تُستوحى فكرتُها من خارجها، ومثلها نصوص تم اختيارها على مرحلتين، واختزلت وكثفت.. وبعد ذلك تطلب منهن الكتابة على الطريقة الماليزية وأشياء أخرى..
ليس هذا درساً مدرسياً في جامعة ما، إنما هو مجمل ما جرى في ورشة (الكتابة من أجل الحياة) أو (الشعر من أجل الحياة) -هكذا بدا لي أقرب- وهو عنوان الورشة التدريبية التي أقدم معهد (فولس بورغ) الألماني على إقامتها في البصرة. الفكرة تعود في الأساس إلى السيدة (برجيت اسفنسن) المشرفة العامة في المعهد، وبمشاركة متميزة من السيدة (إنكا توتليه) مديرة معهد (هاينرش بول فاونديشن) من ألمانيا أيضاً. السيدة برجيت سبق لها أن زارت البصرة لأكثر من مرة، فهي التي عملت على إصدار كتاب (عيون إنانا) الشعري، المترجم الى الألمانية والفرنسية، والذي ضم قصائد لشاعرات عراقيات، حيث تم الاحتفال بإصداره في إحدى جلسات البيت الثقافي العراقي في مناسبة سابقة. الكتاب الشعري هذا يشير الى آلهة الحب عند السومريين، كما هو معروف.
الورشة خاصة بالشعر، وهي فكرة تحسب لصالح الشعر في مدينته (البصرة) هكذا، وعلى مدى أربعة أيام، تلقت الشاعرات (المتدربات) من البصرة وبغداد وكردستان دروساً عملية، علمية في فن كتابة الشعر. فعل استثنائي حقا، لكنه يدعو للبهجة أيضا، أليس كذلك؟ إذ كيف سيتم تعلم كتابة قصيدة، ألم يكن الشعر ابن الفطرة والموهبة والعدم والممارسة الصبيانية؟ ومن بمقدوره ان يعلمنا كتابته، إذا كانت قلوبنا لمّا تشتعل بعدُ بناره، إذا كنا لم نجن ونصرخ فرحين بملائكته، وهي ترفُّ في سمائنا، أو مرتعدين من مسوخه وهي تطاردنا مع حلول كل ظلام؟
تقول الشاعرة منتهى عمران، وهي مشاركة فاعلة في جلسات الورشة: (على غير العادة، جلسنا، نحن معشر النساء الشاعرات، لا لنتحدث عن الحزن والفرح ولا عن الغيبة والنميمة والرجال والمطبخ والفاصولياء والمكرونة.. أبدا، ولم نتحدث عن الطبخ والملابس والكماليات وشؤون البيت والأولاد والرجال.. إنما كانت أحاديث كلها في الشعر وعن الشعر، في القصيدة وفي الثقافة والفكر والكتب والأدب والاجتماع وكل ما يمت للحب والحرية بصلة ووفاق).
جلسن ليتدربن، وليتعلمن كيف يكتبن الشعر، وبمختلف أساليبه. نساء، شاعرات جئن من ألمانيا، جمعهن الشعرُ بشاعرات عراقيات من كردستان وبغداد والبصرة.. ومع الساعات الطوال، وسط الغرف المسكونة بالصمت أحيانا، والضاجّة بالقصائد أحيانا أخرى. مع الأحرف والكلمات والجمل القصيرة، التي راحت تستحيلُ خطاطات شعر وقصائد.. ذهبن ليختصرن العالم شعراً والفرح قصيدةً في قاعة صغيرة، داخل بناية المكتبة المركزية العامة في البصرة.. حيث لا أحد في الشارع، وفي السوق الكبير بضاحية الجزائر الجميلة يعلم شيئاً عن الشعر كقضية بينهن، أصغين وهمسن وتصاعدت أرواحهن إعجابا بالبيت والومضة والقصيدة. تقول منتهى: (كانت أقلام وأوراق ووجوه المشاركات تتقدُ شعرا وإبداعا).
بالرغم من أن السيدة (بريجت) فوجئت بعدم وجود شاعرات صغيرات ضمن كادر الورشة، وربما تحدثت عن صدمة لها جراء ذلك، إذ أن غالبية الشاعرات اللواتي شاركن كن بأعمار تجاوزن معها قضية التدريب ربما، هكذا يهمس أحد العاملين على تنظيم الورشة. لكنها الخطوة الأولى، وفي الاتجاه الصحيح، إذ سيكون لفريق العمل فرصة قادمة لتنظيم ورشة أخرى في الوقت القريب. وخلافا لمعتقد اتحاد الأدباء فقد كان عدد الشاعرات البصريات كبيراً، وتمكنت الورشة من اكتشاف شاعرات لم نسمع بهن من قبل. جئن من شرائح مختلفة، واتضح لنا أن من بينهن: الطبيبة والمهندسة والمعلمة وربة البيت والطالبة والاعلامية. الصغيرة والكبيرة. المتزوجة والعزباء.. ومن مختلف القوميات والديانات والمعتقدات.. تتحدث الشاعرة (إنكا) من معهد هاينرش بول فتقول: أكثر من عشرين امرأة، امتهنَّ الشعر، ومارسن طقوسا في التعايش والمحبّة، لم يختلفن لحظة، ولم يكسرن حالة السلام بينهن، كن بعيدات عن التطرف، تقبلن بعضهن.. شكلن عالماً من الصفاء والمحبة، بعيداً عن هذا العالم المجنون.. كتبن من أجل الحياة، لقد فعل الشعر سحره.
قد لا يصحُّ حديث النقد هنا، لأننا نتعامل مع نصوص نسوية قيلت في ورشة للشعر، لكننا، نقف حيارى أمام أوجاعنا كأفراد في مجتمع مثل العراق، إذ من غير المعقول أبداً أن تنحسرَ فسحة الحياة وتشحَّ لحظة التأمل، ويخنقنا هواء قاتل، ونحن نقرأ نصوصا تحدثت طويلا عن الموت وتمظهراته في المجتمع والدين والعشيرة والعسكر من جانب، وبين الحب والمحرّم والممنوع والمقموع والتوق للحبيب ومناجاته وهو يغدر من جانب آخر. ليس من ذنب تتحمله الشاعرات، إذا قلنا بان نصوص الفرح كانت شحيحة إزاء ذلك، ونحن نتحدث عن عالم الشعر عند النساء اللواتي شاركن في الورشة.
في معادل شبه موضوعي لحجم الظلام والانكسار الذي رافق نصوص الشاعرات اللواتي كتبن بالعربية كانت فسحة الحرية التي تتمتع بها المرأة في كردستان قد افصحت عن نصوص تحدثت عن الطبيعة والحب والحياة طويلاً، فكانت أصوات النساء الشاعرات اللواتي قرأن بلغتهن القومية تنساب مثل قطرات مطر خفيف عذب، كان ذلك واضحاً في عيون الشاعرات، ومن خلال موسيقى الكلمات. أما الهاجس الكوني والشعور الانساني العميق فقد سمعته من الشاعرة الألمانية إنكا، التي قرأت قصيدة قالت إنها لشاعرة معروفة هناك. الأرض والانسان يلقيان بظلالهما على الشعر حيث يكون.
بما أن الورقة هنا لا تتسع للنصوص، سنكتفي بذكر الأسماء، علنا نسمع من اتحاد الأدباء كلمة: منتهى عمران، نهلة جابر، سمرقند الجابري، نقاء الزبيدي، إيمان الوائلي، الهام ناصر الزبيدي، منار البصري، أسماء العلي، إيناس البدران، جنان المظفر، أسماء الرومي، سندس بكر صديق، بسمة السلمي، خولة الناهي وصبا العنزي، جيان سعيد قرداغي، كوليزار نوري، كوهستان آشتي.