يزوره السيّاح بلباس الغوص متحفٌ للنحت في قاع البحر

538

زياد جسام /

تزاحمت التيارات الفنية وتنوعت عبر الزمن إلى جانب التطور الفلسفي العام في مفهوم فنون ما بعد الحداثة وما بعدها، والتحولات التي أصابت أغلب سياقات المعرفة، وظهور مفاهيم التلقي الحديثة في عصر التكنولوجيا وتغيير مفاهيم التذوق العام وتطورها.
كذلك هو الحال بالنسبة لأماكن عرض الفنون، إذ أخذ الفن التشكيلي تحديداً يعرض في أماكن لم يكن المتلقي معتاداً عليها، إذ خرجت الأعمال التشكيلية من صالات العرض إلى ساحات مفتوحة أو شوارع أو مسارح.. كل هذا أصبح مقبولاً واعتدنا عليه تقريباً، لكن أن يعرض النحات أعماله النحتية الواقعية في “قاع البحر” فربما تعد هذه سابقة لم نسمع بها من قبل.
فكرة الصدمة
هناك، حتماً، كثير من الفنانين الذين اشتغلوا على فكرة الصدمة، لكن ليس بالضرورة أن تأتي الصدمة من جرّاء فنطازية العمل نفسه، بل إن أغلبهم اشتغلوا على فنطازية العرض وإبهار المتلقي بطرقها. من بين هؤلاء المبدعين الفنان الإنجليزي (جايسون ديكاريز تايلور) الذي تخصص في النحت الواقعي، إذ كوّن منحوتاته الواقعية وأكملها ثم نقلها إلى موقع العرض تحت الماء، وقد بلغ فيها قمة الاندماج مع شخوصه، صاهراً إياها فى بناء نحتى يجمع بين ذكر وأنثى كرمزين بشريين يمثلان الحياة بكل تجلياتها، بالتوازى مع نفس الإيقاع الحجري الذى يساعد في الشعور بالارتقاء داخل واقع جديد يرفض الفنان التخلي عنه، هي الحياة في أعماق البحر. إن ما أضاف جمالاً لأعمال هذا المبدع هي الشعاب المرجانية والطحالب، إذ أضفت عليها ملمساً ولوناً معتقاً يعجز الفنان عن خلقه أو محاكاته، فقد اتفق جايسون مع مديري الحديقة البحرية الوطنية وجمعية كانكون البحرية لإنشاء هذا المتحف الذي أطلق علية اسم (متحف الفن تحت الماء MUSA)، كما يلعب هذا الموقع دوراً مهماً في الاقتصاد والسياحية البيئية في ولاية يوكاتان المكسيكية، إذ يزوره أكثر من 250 ألف زائر سنوياً.
حوّلَ هذا المبدع قاع البحر القاحل إلى حياة برية بوضع نحو 510 تماثيل، واستخدمت في تشكيل هذه المنحوتات مواد تعمل على تعزيز الشعاب المرجانية، علماً أن زوار المتحف يتجولون فيه مرتدين بدلات الغوص!
الفن بلا أحكام
لو تحدثنا هنا عن المحاكاة في الفن وأثرها العالمي، فإننا ندرك أن الفن غير خاضع لأية أحكام أو قواعد، فلكل زمن رؤيته التي يلخصها مبدعوها، والنافذة التي تطل على عالم واسع، لتعطي مفاهيم جمالية أوسع تدعم الطموحات وتستشعر الاحتياجات، وربما تلامس المشكلات، وهناك من ينقل للمتلقي عالماً تعبيرياً برؤية بصرية حديثة لها أبعاد تبنى على أشكال خيالية أو أسطورية قد يتشابك في دواخلها كثير من المفارقات، يريد بها إشراكنا في النظر إلى تلك التقنيات التي يحاول الوصول بها إلى قمة معاني التعبير. لا شك في أن تجريب الفنان على الخامات والأمكنة والأحجام هو الوسيلة التي تسمح له بالتمرد على الأنماط الفنية السائدة، إذ تتيح له فرصة الحلول المتعددة.
هنا يمكننا القول إن الواقعية في الفن التشكيلي، أو إعادة تصوير الأشياء التي تحيطنا، سواء أكان نحتاً أو رسماً أو أية عملية إبداعية أخرى، هي ليست قضية خاطئة، بل اتفق عليها كثيرٌ من الفلاسفة، فقد أكدوا أن المحاكاة هي خلق وتخييل وتشكيل للموضوع الإبداعي، فهي لا تعني المطابقة لما في الواقع، أو تقليده حرفياً، كما تدخل المحاكاة في الصراع الإنساني عند الفنان بين معطيات الواقع المحيط به وآليات الحراك الذاتي التي يحكمها الأداء التعبيري.
أما الجانب الآخر للفنان فقد يتفاعل مع الواقع عند أدنى حد من التوتر النفسي، مجسداً عبره إبداعاته، وهو الجانب الإنساني وهمومه عبر العلاقة بين الإنسان والإنسان بكل ما يحمل من معانٍ، أو قد يغازل الفنان تراثه على نحو رمزي يوحي بالحنين للمكان والزمان على المستويين الجسدي والروحي. علاوة على ذلك اختزال المسافة بين حركة جسد الإنسان الخارجية والصراع الداخلي له إلى أدنى درجة، وهو ما يكشف عن وصول الفنان إلى أعلى درجة من الإنسانية التي قد تجعله في مصالحة واضحة بين الأنا والأنا العليا، وهنا يأتي دور السلوك الإبداعي الذى جرت على وفقه المصالحة بين الذاتي والواقعي، كإحدى صور الجدل بين الخيال والحقيقة، وهو ما يتجسد واقعياً في التركيبة الشخصية لهذا الفنان، إذ لعبت حالته التعبيرية على المحورين التقنيين الأحادي والمركّب عبر وسيطها الحجري. ففى عمله هذا ثمة علاقة ممزوجة باليقظة النسبية بين الفردي والجمعي وبين الذاتي والواقعي، فضلاً عن التدفق الحركي البصري بين المرئي واللا مرئي.
وبعيدا عن تعريفات الفن ومسمياته المختلفة والآراء الفلسفية في تحديد مفهوم ذلك الجمال، سواء عبر النظريات الحسية والعقلية، فإن على المتلقي أن يخوض في دواخل المبدع لغرض اكتشافها وتحديد القيم الإبداعية التي اعتمدها، ومن ثم النظر إلى المحاكاة سواء أكانت واقعية أم غير ذلك عبر المكان والزمان والأشكال، هنا سيتمكن المتلقي من الغوص في أعماق الفنان وكشف بواطنه وإبداعاته.