الحيدر خانة.. مختلف في تسميتها ومتفق على روعة تراثها

2٬803

عبد الجبار العتابي – تصوير: حسين طالب/

لا يسعك وأنت تمر من أمام محلة (الحيدر خانة) من شارع الرشيد، إلا أن تقف متأملاً وجهها الذي لا يثير الانتباه إليه شيء سوى الجامع الذي يحمل اسم المحلة التي لها تاريخ وتراث شعبي وحكايات كثيرة تحفظها الأزقة والشواهد والناس، ابتداءً من الاسم الذي ربما أن تأملته قليلاً سيدهشك ارتباط كلمة (خانة) به، حيث تارة تجده (حيدر) من دون ألف لام التعريف وتارة تقرأ (الحيدر) معرفاً، خاصة اذا ما كنت تعرف أن كلمة (خانة) تعني (البيت) أو (المكان)،كما في (مسافر خانة) الذي يعني (مكان مبيت المسافرين) أو (جاي خانة) وهو مكان أو محل بيع الشاي، وحين تنظر من طرفي شارع الرشيد اللذين يتوسطهما الجامع، تجد أن الجامع كان نقطة انحراف الشارع قليلاً، ويمكن تسجيل ملاحظة أن أهالي الحيدر خانة وأصحاب الدكاكين والوجهاء، عندما اقترب الهدم من بيوتهم احتجوا ورفضوا، فما كان من رئيس البلدية وكان يومئذ المرحوم رؤوف الجادرجي، إلا أن يأمر بالهدم ليلاً، ولما أصبح الصباح، جوبه الناس بالأمر الواقع وليس لديهم من يشتكون إليه إلا الله، كما جاء في توصيف حال الناس.

درابين وحفر

واذا ما وقفت هناك ونظرت الأزقة، فلن تشاهد غير (درابين) بعرض نحو مترين، ملتوية وغير معبدة وطينية، بل أنها مجرد (حفر وطسات) ونفايات ومن الممكن أن تتعثر إن لم تنتبه لخطواتك، والمشي فيها وإن كان بوضح النهار فأنه يجعل الخوف يتسلل الى القلب، فليس من مارة كثر هناك والصمت الرهيب هو المسيطر على تلك الدرابين الضيقة، وقد تعجب أن المكان هو جزء من شارع الرشيد الصاخب، بل أنك من السهل أن تقول (ولا كأنك في بغداد!)، فالأشياء متداعية ولا تسر الناظر، فالهدم والخراب والبيوت الآيلة للسقوط هي العنوان الأوضح، منطقة غريبة وموحشة ولا أثر للجمال فيها، وحتى الشناشيل التي كان لها سحر، لم تعد الا مجرد أدوات محطمة يكتظ فيها القبح، ولا يمكنك العبور منها الى شارع الجمهورية بسهولة، فأما تجد الدرابين مغلقة او العوائق فيها مما لا تستطيع تجاوزه.

بيت ناظم الغزالي

هناك.. اذا ما سألت أي شخص عن المكان، فأول ما يحدثك عنه هو (بيت المطرب ناظم الغزالي (1921 – 1963) بل ويدلك عليه ويمتدحه أمامك، كأنك لا تعرفه، ويحكي لك بعضاً من سيرته وبالأخص منها أنه ولد في الحيدر خانة يتيماً، وأمه امرأة ضريرة فقيرة، وأنه بالرغم من الصعوبات استطاع أن ينجح ويكون اسماً راقياً، ومن هذا الاطراء الجميل يسعدك سماع ما يقال عن حياة الغزالي وربما تتناهى الى مسامعك من حيث لا تدري أغنياته. وفي محاولة التجوال داخل أزقة الحيدرخانة الحالية لا ترى بيوتاً مسكونة ولا تشعر بوجود أي حياة حقيقية بقدر ما تشعر أن المكان في مجمله عبارة عن خرائب فيما تحول الذي ما زال متماسكاً منها الى مخازن، ولكن لا سكان فيها، وهذا يعني أنك لا ترى أحداً يرتدي تلك (الجراوية) التي اسمها (السي لفة) الشائعة بين أبناء محلة الحيدرخانة، والغريب أن عودة الى الماضي يمكن لنا أن نعرف ومن خلال دفاتر المختارين الخاصة بسكان المحلات البغدادية أن محلة الحيدر خانة كانت عام 1917 تضم 1906 من المسلمين و206 من اليهود!!، وربما تتساءل: أينهم؟
ومن الطريف أن تستذكر وأنت تتطلع الى البيوت الخربة هناك ما جاء في أخبار البلاد بالجرائد، وقد ورد عام 1917 بخبر مفاده: (كان بعض العمال يحفرون أساساً لإحدى الدور في محلة الحيدرخانة فعثروا على (بستوكة) ففتحوها فوجدوها مملوءه قطعاً ذهبية من نوع (الغازي) الراجع عهده الى ما قبل السلطان محمود الثاني أي الى نحو 150 سنة، وقد أخبرت الشرطة بوجود هذا الكنز فجاءت وحملته الشرطة).

أي حيدر منهم؟

الحَيْدرخانة محلة شعبية قديمة تقع في الجهة الشرقية من مركز بغداد، وتحتل الجهة اليمنى من شارع الرشيد حالياً من جهة الماشي من العاقولية الى محلة الميدان، يحدها من جهة الشرق شارع الجمهورية، تحمل حالياً اسم (محلة الرشيد) بالرقم (112) حسب الترقيم الجديد لأمانة بغداد، واذا ما كانت في السابق تحمل اسماء (العكود) مثل فيها عكد الحيدر خانة وعكد الجامع وعكد جامع داود باشا وعكد شفتالي وعكد الخشالات، فهي الآن تحمل أرقام أزقة مثل (15) وغيره، كانت عامرة ومهمة، إلا أن الأزمنة غيرتها.

وقد اختلف الكثيرون في تسمياتها قبل أن تحتفظ باسمها (الحيدر خانة) فهناك من يقول لها اسم (الجيبة جي) نسبة الى مالكيها آل الجيبه جي وهي أسرة بغدادية قديمة أخذت اسمها من الكلمة التركية، وهناك من يقول لها اسم (طاق صلال) نسبة الى طاق كان فيها وأزيل، لكن (الحيدر خانة)، حسب الدكتور عماد عبد السلام رؤوف (محلة كانت في العصر العباسي تسمى محلة سوق الثلاثاء، وهي محلة واسعة تتفرع الى دروب لكل منها اسم خاص به، وكل درب أصبح في العهود المتأخرة محلة قائمة بنفسها، مثل درب الخبازين (العاقولية فيما بعد) ودرب دينار (شارع المأمون فيما بعد) ودرب زاخا (قسم من شارع المتنبي فيما بعد) وغيرها. وقد عرف سوق الثلاثاء نفسه، في وقفيات القرن الحادي عشر للهجرة (17م) بسوق السلطان أو السوق السلطاني أو السوق الطويل. اما المحلة نفسها فكانت معروفة بـ(الحيدر خانة) في القرن العاشر للهجرة (16م) ما يدل على وجودها قبل ذلك التاريخ بمدة غير محددة).

وبالرغم من جزم الدكتور عماد عبد السلام رؤوف على أن اسم (حيدر) لا علاقة له بـ (حيدر جلبي الشابندر) ويدعى كذلك “حيدر باشا” و”حيدر خان”، لكن الدكتور عبدالله الجبوري، المحقق وأمين مكتبة سابق، الذي ينظر إليه بعضهم على أنه أفضل وأوثق من حقق وكتب في محلة الحيدرخانة قال: “وحيدر باشا هذا الذي تنسب إليه (الحيدرخانة) هو حيدر جلبي الشابندر ويسميه مرتضى نظمى زادة (صاحب كتاب كلشن خلقا بالتركية) – شيخ بندر – وهو الذي بنى الحمام المشهور بـ (حمام حيدر) الواقع في جانب الرصافة من بغداد (شارع النهر) شارع المستنصر حالياً. وحيدر باشا كان من أعيان بغداد وتجارها المشاهير، ويستشهد بعضهم بما قاله العلامة المؤرخ الدكتور مصطفى جواد:( الحيدر خانة: نسبة الى “حيدر” أحد الأعيان في العصور التركية)..

اسماء واسماء

كثيرة هي الاسماء التي ولدت وعاشت في الحيدرخانة وكان لها حضور فاعل في الحياة البغدادية، من هؤلاء الفنانة ناهدة الرماح (١٩٣٨- ٢٠١٧)، والفنان الباحث التراثي فخري الزبيدي (1925 – 1999)، وهناك (حكمت الحلي) مواليد عام (1924) حلاق الملوك، لكن صالونه تحول الى محل لبيع القرطاسية، وهناك (الملا قنبورة) التي كانت تدرس الكتاتيب في المحلة في نهاية القرن التاسع عشر والتي تولت تدريس الكثير من رجال الادارة والحكم في العهد الملكي، وهناك (مجلس بيت الشيخلي) حيث كان ينعقد يوم الثلاثاء من كل أسبوع منذ الربع الأخير للقرن التاسع الميلادي ومثله (مجلس آل الدفتري) الذي قام به المحامي محمود صبحي الدفتري أسبوعياً وعرف بصالون الجمعة.

حرامي الملابس الداخلية

والأطرف مما يتم استذكاره عن (الحيدرخانة) ما ذكرته الشاعرة لميعة عباس عمارة عن (حرامي الملابس الداخلية) حيث كان بعض طالبات القسم الداخلي في دار المعلمات بالحيدرخانة يشكون من فقدان ملابسهن الداخلية وجوارب النايلون من حبل الغسيل، حتى ذلك اليوم حين شاهدت (لقلقاً) كبيراً يقف مستمعاً لمحاضرة لها عن الأدب العربي، وحين اشارت له طار، تقول (هذا اللقلق الذي عاصر دار المعلمات منذ أول نشأتها، رأيته وأنا طفلة، وأراه دائماً أثناء تدريسي كمدرّسة، يسكن أعالي البنايات والمنائر، هو من سكان محلة الحيدرخانة القدماء)، وتتابع: (أرادت الحكومة أن تفتح شارع الجمهورية الموازي لشارع الرشيد، فهدمت الكثير من البيوت الصغيرة المزدحمة وأصاب بناية دار المعلمات بعضاً من (القص) وأصاب أعشاش اللقالق الكثير من (الهدم) وتناثرت منها جوارب النايلون والسوتيانات والملابس الداخلية الرقيقة الأخرى )