السنك محلة الشطّ التي حولها العثمانيون الى (ذباب)!!

4٬807

عبد الجبار العتابي/

في الساعة الثامنة والنصف من صباح يوم 11 آذار 1917 دخل الجنرال (مود) القائد العام للجيش البريطاني بغداد على ظهر باخرة انكليزية سار بها في نهر دجلة ومعه هيئة أركانه ليتوقف عند القنصلية البريطانية في محلة السنك واتخذها مقرا لقيادته، ومعه احيطت المحلة بهالات من الاهتمام والشهرة وقد صارت ترى وجوها وأزياء مختلفة وتعيش عصرا احتلاليا جديدا.
هي الآن أكثر الأمكنة صخبا وكثافة وطالما كان جسرها ضاجا بالزحام الذي يجعل راكبي السيارات يترجلون منها لقطع المسافة المتبقية مشيا على الأقدام، لاسيما المكان الذي هو الأكثر اشارة الى (السنك) الذي أصبح فوضى عارمة في نهاراته سواء الشارع العام منه أم الأرصفة التي يفترشها الباعة وتقوم عليها العربات الخشبية التي تبيع كل شيء وتصطخب بالنداءات ومنبهات السيارات، لكنه بعد الظهر يهدأ وقبل أن يحل المساء يكون خاليا الا من سيارات عابرة وتتسيده الرهبة والخوف فيما النفايات تبقى حاضرة، والمكان كله تحتله المحال التجارية لبيع أدوات السيارات الاحتياطية وقطع الغيار والاكسسوارات والزيوت فضلا عن المعدات الزراعية والأسمدة وغير ذلك، أما الطرقات الصغيرة القصيرة فهي الأخرى تحولت الى محال تجارية أيضا لم تترك من نهر الشارع الا مساحة صغيرة، لكنها ما زالت تحمل ملامح الجمال وأن غابت قسمات مباهجها التي كانت تضيء بروعة، أما من ناحية شارع الرشيد فهناك عبق الماضي يتصاعد من بين جدران الأبنية القديمة وزخارفها والأسماء التي ما زالت على جبهاتها، حيث لكل مبنى ذاكرة ولكل (دربونة) حكاية تفوح منها روائح الزعفران والهيل كما كانت عليه المحلة.
معنى اسمها
كلمة (السنك) تركية معناها (الذباب)، كما تتفق جميع المصادر، وسبب تسميتها هو أنها في الأصل (مزرعة بصل) فضلا عن زراعة أنواع الخضراوات التي تستخدم لها السماد الحيواني الذي طالما يكون سببا في كثرة الذباب، وقد أهملت هذه الأراضي بعد احتلال بغداد سنة 656هـ – 1258م فاستوطنها الذباب بنحو غريب وملفت ولما جاء العثمانيون (1532 – 1918 م) فوجئوا بواقع هذا المكان فأطلقوا عليها هذه التسمية إشارة إلى كونها كثيرة الذباب، وتفيد المعلومات أن اسم (السنك) كان يتردد في سجلات المحكمة الشرعية ببغداد منذ القرن التاسع عشر.
أوراق من تأريخها
الذاكرة التي تحملها المحلة تختزن الكثير من الأسماء والأرقام، حيث كانت من أجمل محلات بغداد، خاصة أنها مطلة على نهر دجلة، مع الاشارة الى هذا القول من (أن بغداد شهدت في نهاية العشرينات من القرن العشرين نمطا انتقاليا بين النمط البغدادي القديم والنمط الذي ساد فيما بعد، والمتمثل بتشييد “محلة السنك”، التي استخدم في تشييدها نمط جديد تمثل في استخدام حديد الشيلمان في تسقيف الدور والمحال العامة والخانات للأغراض التجارية)، وكل ما صارت عليه المحلة من جمال وأجواء لم يدم طويلا وقد بدأ ذلك نهاية الستينات حينما زحفت عليها المحال التجارية، فغيرت معالمها التراثية والاجتماعية.
محطة الشط
وفي الذهاب الى أبعد نقطة في تأريخها الذي هو جزء من تأريخ مدينة بغداد، تؤكد المعلومات أنها كانت في العصر العباسي (مزرعة للبصل) وقد أخذ الباب الشرقي لبغداد اسمه منها فسمي (باب البصلية)، وبالتأكيد مرت خلال الأزمنة بمراحل كثيرة عبر احتلالات عديدة لها تأثيراتها المباشرة لا سيما أنها بعيدة عن بغداد المدورة، وتشير المصادر التاريخية الى أن قسما من أراضي هذه المحلة كانت في العصر العباسي تدخل ضمن منطقة باب الازج (باب الشيخ)، حيث أن تلك الأراضي الزراعية خاصة بزراعة البصل تدخل ضمن أوقاف الشيخ عبد القادر الكيلاني (1077 – 1166 ) ثم تحولت فيما بعد الى محلات سكنية بعد أن بنيت فيه الدور وسكنتها أسر مختلفة منذ النصف الأول من القرن التاسع عشر حيث تمت الاشارة الى (سوق السنك) في وقفية سيدة اسمها خديجة سنة 1820 إذ تؤكد المصادر التاريخية أن السوق دلالة على بداية انتشار العمران في هذه الأرض الزراعية، وقد كانت بغداد محصورة بين الباب المعظم وهذه المحلة حيث تنتهي حدود المدينة عندها وبالضبط في قصر الحاج ياسين الخضيري (الذي اتخذ فيما بعد دائرة عقارات الدولة)، وقد تم ذكر اسم (السنك) كونه رسميا في سجلات عام 1921، فيما يذكر أن عدد نفوس محلة السنك سنة 1917 حسب دفاتر المختارين هو (748) نسمة جميعهم من المسلمين، وقبل هذا كان اسمها محلة (الشط)، وربما هي تسمية تعود الى العصر العباسي حيث جاءت قصيدة في ديوان الشاعر عبد السلام الشطي اشار فيها الى اسرته البغدادية التي هجرت ربوع الزوراء واستوطنت دمشق في القرن الثاني عشر للهجرة وقال فيها (نحن بنو الشط الاماجد/ اصل المناصب والمراتب)، واصبحت من المحلات البغدادية المهمة والمميزة والجميلة أيضا، فهي تقع في جوار محلات المربعة والخلاني ورأس الساقية وباب الشيخ، وكان يضرب المثل ببناء بيوتها المتميزة بشناشيلها وشبابيكها التراثية الملونة المطلة على درابينها، فضلا عن مقاهيها الشعبية التي كانت ملتقى للشعراء والأدباء والفنانين، فيما شهدت المحلة بناء العديد من الفنادق التي أصبحت الآن مجرد هياكل خاوية.
معالم مميزة
كانت المحلة تعد في قائمة جونز سنة 1846 م محلة كبيرة فيها ثمانية عكود (أي دروب) هي: عكد الطاق الاظلم وعكد الشطية وعكد الراعي وعكد السادة وعكد القصاصير وعكد الدبخانة وعكد الشريعة وعكد الباب الشرقي، وتذكر المصادر التاريخية أن أكثر هذه الدروب أصبح داخلا في مقتربات جسر السنك الذي اقيم عام 1984، وتشمل أيضا على عكد الخناق المسمى قديما بعكد بورانة، وقد دخل في أرض عمارة الاتصالات في شارع الرشيد، ومن معالم المحلة القصر الذي انشأه السيد عبد الرحمن الكيلاني (1841 – 1927) على شاطىء دجلة (منتدى المسرح حاليا) وهناك جامع عرف بجامع السنك وآخر ينسب الى شخص اسمه عبد الفتاح، فضلا عن العديد من الأبنية ومجمع سينما روكسي حيث يضم ثلاث دور لعرض الأفلام وهي سينما روكسي الشتوي وسينما ركس وسينما روكسي الصيفي.
وتؤكد الوثائق الوقفية عن وجود الحدائق المسماة (الباغجات) والتي منها (بستان محمد بن جواد أوده باشي) سنة 1321 هـ و(بستان جنينة) العائد لورثة (محمد علي خان النواب) والذي تحول بعد ذلك إلى دائرة للتلغراف (عمارة الاتصالات) وكذلك (بستان زهو بنت حسين بن علو) سنة 1338 هجرية.
الجنرال مود ومس بل
في الساعة الثامنة والنصف من صباح يوم 11 آذار 1917 استطاع الجنرال (مود) القائد العام للجيش البريطاني أن يدخل بغداد على ظهر باخرة انكليزية سار بها في نهر دجلة ومعه هيئة أركانه إلى المقيمية البريطانية (القنصلية) في محلة السنك واتخذها مقرا لقيادته فبات ليلته الأولى فيها.
يقول المستر ادموند كاندلر وهو أحد الذين رافقوا قوات الاحتلال البريطاني التي دخلت بغداد في 11 اذار سنة 1917: لقد اقمت في فندق دجلة وهو على الطراز الأوروبي ويقع على نهر دجلة بجانب الرصافة وتناولت العشاء فيه مساء 11 اذار وقد سألني صاحب الفندق عن اسم قائد الجيش البريطاني الذي احتل بغداد فاخبرته به وفي اليوم التالي أصبح اسم الفندق اوتيل مود، وهذا الفندق في الأصل هو حديقة دار القنصلية الروسية (القيصرية) وقد هدم عند تشييد الجسر الحديث سنة 1984.
وبعد الاحتلال سكنت القنصلية (مس بيل) مهندسة المخابرات البريطانية في العراق وقد أطلقت على دارها اسم “دار العفة” التي كانت تدار منها مجمل مفردات العمل الاستخباري البريطاني في بغداد والعراق عامة.
ويمكن الاشارة الى (جسر الكرادة العائم) الذي انشأه الإنكليز عام 1918 لربط (السنك) حيث كانت تحوي الدوائر البريطانية العسكرية مع (كرادة مريم) التي كانت تحوي مساكن الضباط الإنكليز وبعض الوحدات العسكرية.
فتح جادة خليل باشا
مرّ فتح شارع خليل باشا (الرشيد) (1910 – 1916) باشكالية تمثلت في عقدة في محلة السنك التي تقع فيها دار القنصلية البريطانية التي يسميها العامة من البغداديين في العهد العثماني (القنصلخانة) او (بيت الباليوز) أي المعتمد البريطاني، وكانت البناية تمتد الى استقامة الشارع العام وقسم منها في دائرة البرق المركزية فامتد الشارع الى سور القنصلية وتوقف العمل فيه اذ اعترضت الحكومة البريطانية أن يهدم قسم من قنصليتها في بغداد وعليه اصر خليل باشا على هدمها وكادت تحدث أزمة ولكن لاشتعال نار الحرب العالمية الأولى فقد اهمل المشروع.
شارع الرشيد اخترق المحلة فقسمها الى قسمين وقد ازال دورا عديدة والغى أزقة ودرابين، ثم جاء انشاء الجسر عام 1984 ليخترقها من جديد ويغير من خريطتها وقد انشيء شارع عريض نازل من الجسر يؤدي الى ساحة الخلاني، فيما كانت عمارة وقوف السيارات علامة سيئة اساءت لشارع الرشيد.