الطيران.. ساحة الكادحين وملاذ الفقراء

2٬722

عبد الجبار العتابي _ عدسة:صفاء علوان/

ساحة مكتظّة دائماً بالمارّة والمتبضعين والعمال، مثل ذاكرتها الضاجّة بالصخب. ساحة الأحزان وأحلام الفقراء التي احتضنت الهاربين من ويلات الإقطاع وآهات الجوع والضيم، وما زالت تشد حزامها لتكون حاضنة لعمال البناء والباعة الجوالين، حتى تحولت زاوية كبيرة منها الى (مسطر) للعمال وباب رزق للكادحين.

لكن تجمعات العمال والفقراء صارت هدفاً سهلا للإرهابيين الذين فجروا سياراتهم المفخخة في أنحائه.

ظلت ساحة الطيران حيوية، واحتفظ موقعها بستراتيجيته كمحطة للعديد من مناطق بغداد، تحيطها أسواق لمختلف البضائع ابتداء من الخضار والفواكه والمواد الغذائية والمنزلية والسمك والدجاج، وصولا الى الملابس والأحذية والـ (بالات) المحمولة على العربات الثابتة والمتحركة، فضلا عن البسطيات التي يبيع أصحابها كل الاشياء، وكذلك فإن الساحة تشتهر بكونها مطعماً مفتوحاً، طيلة 24 ساعة، للوجبات السريعة من الأكلات الشعبية التي يتصاعد دخانها هنا وهناك، إضافة الى أكشاك الشاي وعربات العصائر وبائعي الصحف الذين يفترشون الأرض، وحيث طوابير سيارات النقل تقف على رؤوس الشوارع الرئيسية والفرعية، فيما هنالك خزان المياه الكبير، الذي مايزال مشرفا على المكان منذ الستينات بطوله الفارع ومشكلاً علامة دالة للمنطقة كلها وصامداً ضد الظروف والاقتراحات بهدّه او جعله كازينو.

سور المدينة

تقع ساحة الطيران في منطقة الباب الشرقي بصوب الرصافة ببغداد، ومنها تتحرر بدايات شارع الكفاح الممتد شمالاً، وشارع النضال جنوباً، وشارع الشيح عمر شمال شرقيها، ومن جهة الغرب تشكل الساحة امتداداً لساحة التحرير التي ترتبط معها بحديقة الأمة، وهي أقدم من ساحة التحرير، ويبدو أن ساحة الطيران، حسب خارطة بغداد القديمة، تقع خارج سور المدينة، وإن كان (باب كلواذى / الباب الشرقي) الأقرب اليها، ففي كتابه ( بغداد مدينة السلام- 2،229) يقول المؤلف ريتشارد كوك “يتضح لنا أن خطوط العدو (هولاكو) التي وصل اليها المستعصم مستسلماً حين خرج من باب كلواذى (الباب الشرقي) كانت في المواضع القريبة من الباب المذكور ولعلها كانت فيما بعد تسمى (البتاويين).”
فيما يذكر ابراهيم الدروبي في كتابه (البغداديون ص393) ان “بغداد في العهد العثماني كانت مدينة محدودة، اذا وصلت الباب الشرقي لم تجد (بعد عبادان قرية). ولأجل هذا كان البغداديون يتخذون من اطراف بغداد وضواحيها العامرة ومنها منطقة الباب الشرقي مكاناً للنزهه حيث يخرجون عصر كل يوم لامتطاء الجياد.”

وهناك دلالة اخرى وهي أن مقبرة الأرمن في ساحة الطيران كانت خارج هذا السور. الى ذلك تؤكد المصادر التاريخية أن (حديقة الأمة) التي كانت تسمى في العهد الملكي (حديقة الملك غازي) جرى انشاؤها على جزء من الخندق الذي يحيط بالسور وكذلك الشارع الممتد من ساحة التحرير الى ساحة الطيران وهو الحد الفاصل بين منطقة الباب الشرقي والأورفلية.

سبب التسمية

تعود تسمية الساحة بـ (الطيران) الى عام 1940، بقرار من أمانة العاصمة التي ارتأت أن تضع التسميات لعدد من ساحات بغداد، وجاء في القرار (قرر مجلس أمانة العاصمة في جلسته المنعقدة بتاريخ 18 تشرين الثاني 1940 تسمية عدد من الساحات وكان من أهمها: الساحة المطلة عليها بناية المركز العام لجمعية الطيران التي يبدأ منها شارع الملك غازي بساحة الطيران). وسبب تسمية الساحة بـ (الطيران) يعود الى جمعية الطيران العراقية التي تأسست في حزيران عام 1933 من قبل وزارة الدفاع لغرض تطوير الطيران والتوعية بعد وصول الدفعة الاولى من الطيارين العراقيين من بريطانيا.

في البداية كان مقر الجمعية في وزارة الدفاع بمنطقة باب المعظم، إلا أن الجمعية تمكنت بفضل نشاطها من جمع مبلغ مكنها من انشاء بناية خاصة بها وذلك في الثامن عشر من نيسان عام 1934 في منطقة الباب الشرقي وسميت الساحة التي شيد عليها صرح الجمعية بساحة الطيران.

لكن تسمية الساحة تغيرت في عام 1992 حينما اطلقت عليها تسمية (ساحة السبعاوي) بعد أن وضعت فيها تماثيل العقداء الأربعة (صلاح الدين الصباغ وفهمي سعيد ومحمود سلمان وكامل شبيب) ويونس السبعاوي ورشيد الكيلاني(1892 – 1965) وهم قادة انقلاب مايس عام 1941 الذين أعدم خمسة منهم عام 1942 في سجن بغداد المركزي، ولكن في عام2003 تمت سرقة التماثيل وعادت التسمية القديمة على الرغم من أن أحدا لم يتداول تسمية (السبعاوي) .

عشوائيات النازحين

احتضنت ساحة الطيران جزءاً من العشوائيات السكنية لأهل الجنوب الهاربين من الإقطاع منذ الاربعينات والخمسينات صوب بغداد بحثا عن وفرة العمل وتطور الحياة، والتي شملت العديد من المناطق ومنها المنطقة التي تدعى (خلف السدة).

ويرى الباحثون أن سبب اختيار هذه المنطقة للنازحين من العمارة والناصرية هو قربها من كراج (حجي منيشد) في ساحة الطيران و(كمب الأرمن)، ما يجعل الوصول إليها أمراً سهل المنال. ويوضح الروائي عبدالله صخي في روايته (خلف السدة) عن أولئك النازحين قائلا: (جاءوا هاربين، مع أبقارهم وحميرهم وجواميسهم، من الاضطهاد والملاحقة بعد ثورة العشرين. جاءوا هاربين من الاقطاع وعبودية الأرض ومواسم الزراعة التي تضاعف الخسائر والذل والديون، جاءوا إلى الآمال البراقة الوارفة في بغداد فسكنوا عند خاصرتها قرب ساحة الطيران، وفي ذلك الشريط البري المفتوح المتصل بالأفق شيدوا صرائفهم وأكواخهم من القصب والبواري والطين وسعف النخيل فنشأت بلدة تكونت من قسمين “العاصمة” و”الميزرة”).

وكان أهل الجنوب يستقلون السيارات من محافظاتهم الى بغداد وبالتحديد منطقة ساحة الطيران الحالية التي كان فيها الكراج الرئيس لهذه السيارات، فهم ينزلون في (العاصمة والميزرة) ولا ينتقلون الى منطقة الشاكرية، حيث ان المنطقة الكبيرة من الميزرة كانت مقابل (كامب الكيلاني) أي ساحة الطيران.

وفي المؤتمر الثالث للمهندسين العراقيين الذي عقد بتاريخ 17 كانون الثاني 1961، طلب عبد الكريم قاسم من المهندسين إعداد خطة سكنية تشجع اصحاب الصرائف على إخلاء المنطقة، ومن ثم جاء قرار الزعيم بإنشاء طريق تمتد من مدينة الثورة الى ساحة الطيران، ما يسهل عملية وصول سكان المدينة في أقصر وقت ممكن.

ساحة ونفق

لم تكن الساحة في سابق عهدها كما هي الآن، بل إنها كانت مدورة وفي جهة مدخل شارع النضال على الطرف القريب من الكنيسة وتواجه الشارع الآتي من ساحة التحرير المحاذية للبتاويين، وكانت المنطقة مفتوحة، ويمكن الذهاب الى تلك السنوات التي كانت عربات النقل التي تجرها الخيول(الربل) حاضرة ثم سيارات الخشب، فيما كانت المساحة المجاورة لها على طرفي امتداد الشارع المؤدي الى شارع الخلفاء مجرد موقف غير شرعي للسيارات، يخترقها شارع بسيط. وحدثت المتغيرات عليها بعد شق النفق تحت ساحة الطيران 1980- 1981، والطريف ان فيه استخدمت حفاره (لبهير)حجم 981 التي تعد أكبر حفارة تم استيرادها من قبل شركة هيئة الركائز والأسس، استوردها مديرها (عاصم حميد مجيد) وكانت اول حفارة بهذا الحجم ( ومشغلها نزار المصري). كان النفق يمتد من ساحة التحرير، يحادد سياجي حديقة الامة، ثم ينتظم في خطين متقاربين من تحت الساحة وصولا الى جسر محمد القاسم. وأعاد انشاء النفق ترتيب الساحة من جديد لتمتد بشكل مستطيل من رأس شارع النضال الى اول الشارع النازل الى ساحة التحرير، وتغيرت حال الساحة بعد نصب تماثيل قادة انقلاب مايس حيث توسطت الساحة المكان وزرعت بالعشب، إلا أنها بعد عام 2003 وبعد (سرقة) التماثيل عادت لتكون ساحة واسعة بطريقين ليس بينهما حاجز .

صور ورموز

لكن الواقف هناك، وهو يحاول ان يسترجع اشياء مما حفظته ذاكرة المكان، ينظر الى منطقة كمب الأرمن ليشاهد سينما هوليوود الصيفي التي تطل على الساحة، كما يمكن مشاهدة “ملهى زهور حسين” الذي كان سياجه من بواري القصب، وكذلك “ملهى الجواهري” فضلا عن “مقهى باقر” الذي قيل انه هو الوحيد في ساحة الطيران. ويمكن مشاهدة العديد من الفنادق الشعبية البسيطة التي يأوي اليها القادمون من المحافظات لغرض العمل او الدراسة، فيما يشير البعض الى وجود ساحة للعب كرة القدم ما بعد الثلاثينات، كما تحضر مكتبة الأورفلي وبجوارها المخبز الشهير بالاسم نفسه. وكانت المكتبة تقدم تسهيلات لاشتراكات شهرية في جميع ما يردها من كتب ومجلات، تأسست باسم مكتبة الأورغواي عام ١٩٥٤ وكانت مجرد محل صغير قرب مخبز الأوروبي الشهير. وكانت العمارة ملكاً لعائلة جميل الأورفلي، ولهذا سميت المكتبة بهذا الاسم. بعدها في الستينات توسعت المكتبة وكان من أبرز روادها حسين جميل ومحمد حديد ومصطفى علي ونزيهة الدليمي وعزيز السيد وخليل شوقي وفؤاد التكرلي ويوسف العاني، ولا بد من النظر الى كنيسة الأرمن،وتسمى ايضا بكنيسة (مَسكنتة او غريغور سافوريك)، وهي ضمن حدود البستان (بستان عبد الرحمن الأورفه لي) إذ أهدى (ورثة الحاج عبد الرحمن الأورفه لي) قطعة الأرض للأرمن سنة 1954 لإنشاء كنيسة ومدرسة وقاعة للاحتفالات والباقي يترك كمقبرة لدفن موتاهم حيث انتهى البناء المشار اليه سنة 1956 وقد بنيت على الطراز الأرمني الأصيل، وإن كان الأب الخوري ناريك شكانيان راعي الكنيسة يقول إنها شيدت (على الارض التي تعود لنا منذ عام 1903)، فيما يشير المؤرخ عباس بغدادي في كتابه (بغداد في العشرينات) اليها باسم (الكنيسة البريطانية في الباب الشرقي)، وعلى مقربة من الساحة هناك مقبرة كمب الأرمن، وهي مقبرة قديمة.

جدارية فائق حسن

وتبقى جدارية 14 تموز، او ما تعرف بجدارية فائق حسن (1914-1992)، هي علامة الساحة الفارقة وهي اول عمل جداري فني بهذا الحجم يقام في ساحة عامة ببغداد، صممت على شكل لافتة عرض طولية من السيراميك الملون عام 1960، يبلغ ارتفاع هذه الجدارية عشرة أمتار وعرضها أربعة أمتار وهي تمثل ثورة الرابع عشر من تموز 1958 .