قراءة في كتاب عبير التوابل

1٬287

طالب عبد العزيز/

ذات يوم، وفي مقهى الأدباء بالبصرة، بمحلة البجاري، كنت صحبة الكابتن كريم علاوي، اللاعب الحيّ الوحيد، في أول منتخب لكرة القدم بالعراق، وهو ذاكرة بصرية حادّة، لم تغادر صغيرة ولا كبيرة من تاريخ المدينة، ساعتها أخذنا الحديث باتجاه سوق الهنود، سوق المغايز، سوق الصيادلة، هكذا، بالأسماء الثلاثة التي يتداولها البصريون الى اليوم.

السوق الذي يبدأ من الجسر الذي يربط بين سوقي الهنود وحنا الشيخ الجديد وينتهي عند عيادتي الطبيبين البيرت كريكور ويوسف نجيب شماس، وما جاورهما من العيادات والصيدليات، حيث يفضي الى سوق الخضار، بعد أن يتفرع ليصبح قطعة واحدة من شارع أبي الأسود الدؤلي.

كركي كتل زعفران!

يقول علاوي بأن بصريا واحداً لم يكن من بين باعة السوق هذا زمن افتتاحه، كانوا جميعهم من الهنود، ولم يكن سوقا خالصا بالبهارات والتوابل، إنما كانت هنالك محال لبيع الدراجات الهوائية والأدوية والتبوغ وفي فروعه المتعددة كانت هناك محال لمهن وحاجيات أخرى. وفي جانب من السوق هذا انطلقت الصيحة الشهيرة (كركي كتل زعفران يا هل السكويكة عزلوا) بعد حادثة مقتل بائعة السويكة (زعفران) على يد أحد الجنود الهنود-البريطانيين.

لكن الأستاذ احسان السامرائي في كتابه (عبير التوابل والموانئ البعيدة) يقول بأن تسميات السوق تفاوتت بإختلاف الحقب، فقد سمّيَ بسوق الهنود نسبةً لجنود المستعمرات البريطانية (الهنود) الذين افترشوا أرض هذا السوق بعد نهاية الحرب فانتشر باعة الكرو واللبان والمانجو والتنباك و السويكة والتوابل والبخور بين الأزقة والبيوت وظهرت أكشاك ودكاكين ومطاعم صغيرة راحت تطبخ (البرياني والتندوري وأسماك الرنجة المملحة (المسموطة بالبصرية الدارجة) والروبيان، وامتلأ المكان برائحة الكاري والتوابل الحارّة، فتحول المكان إلى سوق أطلق عليه سكان البصرة اسم (سوق الهنود).

سوق الصيادلة

ويمكننا أن نقسم السوق الى قسمين، فقسمه الأول (سوق الهنود) ينتهي عند التقاطع الصغير، الذي يفضي من اليسار الى شارع الكويت فيما يذهب فرعه اليمين باتجاه الداكير. أما قسمه الثاني الذي ينتهي عند بداية سوق الخضار فقد سمّي بسوق الصيادلة بسبب كثرة الصيدليات فيه، لكن السوق لم يبق على واقعه الأول فقد كثرت المغازات فيه، بعد غلق بعض محال البهارات، وفتحت محال للملابس والأحذية، لذا اطلق عليه بعضهم اسم سوق المغايز، ومعروف أن كلمة (مغازة) تعني محل باللغة الفارسية.

ويحدد الأستاذ السامرائي نشوء سوق الهنود في ولاية مدحت باشا على العراق 1869 ـ 1872 الذي قام بنقل سراي الحكومة إلى العشار، وبناء دائرة الجمارك هناك، كما أنه شجّع الشركات الأجنبية على الانتقال إلى العشار، الذي عرف فيما بعد بسوق الهنود، عقب الاحتلال البريطاني عام 1914 حيث شجّعت التجار الهنود عن فتح المخازن والمحال، وقد أولت البلدية آنذاك، اهتماماً بهذا السوق فأنارته وكست شوارعه عام 1931، وفي عام 1936 بلغت محال التسوق فيه 115 محلاً تجارياً بينها محال الحلاقين والتحف والبهارات الهندية والخياطين ويتحدث بعضهم عن أن منطقة السوق كانت تضم فنادق مثل فندق سفوي، وهناك فرقة موسيقية ”أوركسترا“ تديرها امرأة، كانت تقدم بعض المعزوفات في صالته.

روعيت في تصميم سوق الهنود صورة الحضارة العربية الإسلامية، من الناحيتين التصميمية والعمرانية بالرغم من التفاوت الحضاري بين الأجناس البشرية وطراز عمارتها، فارتفعت القباب المعقودة بالآجر والأقواس والأواوين والأعمدة الحجرية المستطيلة والمربعة والمزينة بالنقش العربي، وغطّت المنمنمات الإسلامية الواجهات العلوية بشناشيلها ذات الأطر الهندية المصنوعة من خشب الصاج، والنوافذ المقوسة والمزيّنة بالزجاج الحجري المشجر بالألوان، حتى لا يتفاوت نمط البيوت الشرقية القريبة والمطلة منه على نهر العشار، وكان ذلك واضحا في منارة جامع مقام علي، وقبته المغطاة بالقاشاني.. بيوت الملاكين الكبار من أمثال (حمود باشا الملاك وعبداللطيف باشا المنديل ومحمد سعيد الجلبي ونسيم روبين وصالح بك).

ساعة سورين

في الثلاثينات من القرن الماضي أهدت شركة (سورين) كبرى الشركات البريطانية المصدرة للتمور إلى بلدية البصرة ساعة، عرفت بـ (ساعة سورين) وكانت جهود الأخوة ( جو عيسائي وعيسى عيسائي وليون عيسائي ) ووكلائهم في بريطانيا والبصرة قد ساعدت في تمتين العلاقة الأجتماعية والتجارية.

أما موقع الساعة وبناؤها فقد إرتكز على هيكل حجري مستطيل، يرتفع لأكثر من عشرة أمتار، جوار بناية البنك العربي، ليتربع على قاعدة مربعة مبنية بالطابوق الحجري الأصفر المحلى بالأطواق والمنحوتات، وأصبحت فيما بعد جزءاً من بناية (شركة تمور بيت أصفر) لصاحبها (البير أصفر) القنصل الفخري لفرنسا. بعد ذلك شغل المبنى من قبل البنك العربي، الذي أراد له السيد(عبد المجيد شومان) أن يكون مركزاً للتجارة المصرفية في الوطن العربي. أما الجهة الخلفية لمبنى البنك العربي فيقطعها طاق حجري، يربط بين بيتي التاجر الكويتي (محمد عبدالله الشبيلي) وقنطرة صغيرة، تعلوها الشناشيل الجميلة، حتى بدت كما لو أنها تحاكي أبنية جسر كريمر في مدينة (أيرفورت الألمانية).

قشلة سي

ويذهب الأستاذ احسان السامرائي للسوق في الوصف فيقول: «صمم سوق الهنود بطريقه المؤدي إلى (قشلة سي) بصورة مستقيمة، حتى لا يتعارض مع الفروع والمنعطفات التي تمر عليه، والتي شكلت مداخل السوق من اليمين واليسار، وأمثلة ذلك نجدها في (سوق الشيخ خزعل) في محلة (المقام) ومدخل محلة البجاري، وكذلك في مركز (الأوفيزات) والمكاتب التجارية، ومدخل سوق التجار حتى قيصرية (الشيخ خزعل) التي يقابلها تفرع الحاج مصطفى. أما التقاطع الرابع فكان يمثل مدخل سوق الخضيري على الجهة اليمنى ومدخل (شارع كراند) (شارع زينل) بأتجاه ساحة فكتوريا (أم البروم) ومحلة الدوب، مركز سكنى الضباط الأنكليز».

نمط معماري مميز

ويبدو أن السوق هذا كان أطول مما هو عليه اليوم، حيث يقول السامرائي في (عبير التوابل): يصل سوق الهنود بأستقامته هذه شارع (قشلة سي) (شارع أبو الأسود الدؤلي) عبر الصيدليات وعيادات الأطباء ومحال الصاغة حتى نهر الخندق، خارج امتداد سوق الهنود، ليكون على مقربة من محطة (الكاريات) (المترو) وهي عربات تجرها الخيول، تمشي على سكة حديد خاصة بنقل الركاب، أثناء الحكم العثماني، وبهذا التقسيم يمكن حصر حدود سوق الهنود بطريقين رئيسين (شارع مقام علي) (قيصرية الشيخ خزعل) حتى نهر الخندق (منطقة أسياف البصرة) وشواطئ رسو السفن، وقد سمي هذا الشارع بشارع (الملكة عالية) أما الشارع الآخر فسمي بشارع (قاسم باشا الخضيري).

ولكي يكون السوق أجمل وأجمل فقد احيط بنهري العشار والخندق وربطا بمجموعة من الجسور والقناطر هي:

* جسر وايتلي (الأمير غازي) ويربط بين شارع الساحل وسوق الهنود.

• جسر ليك (الأحمر) الموصل من العشار إلى محلة الطويسة.

• جسر نيكسون (الحديدي) وتمر عليه قطارات محطة القشلة.

• جسر المقام.. ويربط بين ساحة أسد بابل ومحلة مقام علي.

• جسر متصرفية البصرة.. ويربط بين شارع الأستقلال ودائرة السراي..

• جسر نهر الخندق. ويربط بين محلة مقام علي ومحلة الخندق.

خلقت المتاجر والخانات الكثيرة في السوق وحدة جمالية ومعمارية، حافظت على نمط معماري مميز، كما توزعت الإضاءة فيه على شكل نسق جميل من الطابق العلوي عند تسربها من( الروازين) والفتحات، لتسمح للضوء و الهواء بالمرور تحسباً من طقس البصرة، بالرغم من أن الادارة العثمانية كانت قد اكدت أن السوق كان يضاء بالفوانيس واللوكسات النفطية، وبالمصابيح الكهربائية بعد الإحتلال البريطاني.