محلة سوق الغزل الضائعة وسط تداعيات الأزمنة

1٬287

عبد الجبار العتابي /

لم تعد تشتهر بكونها محلة كالتي كانت عليها في زمان مضى، بل هي الآن تشتهر بكونها سوقاً لبيع وشراء الطيور وأسماك الزينة ومستلزماتها ومختلف الحيوانات. وقد تغيرت كثيراً منذ أن تم شق شارع الملكة عالية (الخلفاء) عام 1957، وقد سلب منها الكثير من البيوت مثلما ألغى الكثير من درابينها (العكود) وحطم ذاكرتها البغدادية ، فلا نرى فيها (حالياً) شيئاً اسمه بيوت سكنية ولا نسمع لمحمد القبانجي ،المولود فيها، اي مقام عراقي يجعل الحنين يهزنا الى أيام مضت !

محلة الجمهورية

المحلة التي اسمها (سوق الغزل) ليس لها حضور الآن لا بالاسم ولا بالمكان ،فهي تحمل حالياً اسم (محلة الجمهورية) وبرقم (133) حسب ترقيم أمانة بغداد الجديد للمحلات، على الرغم من أنها مجرد أبنية عادية ودكاكين تجارية صاخبة قائمة على شكلها الأولي بدرابينه الضيقة القليلة جداً مع التغيرات التي أحدثها شق شارع الخلفاء الذي ألغى وجودها و (شرّد) أهاليها الذين كان عددهم حتى عام 1917 (2491) نسمة : (1832 من المسلمين و 659 من اليهود) فما عاد منهم هناك سوى الفراغ تلهو به أطياف النسيان التي بلا قلب ولا لسان ،وهذه الدكاكين ارتبط شغلها بما صار عليه سوق الغزل واشتهر به، فلا شيء في المحلة يسر الناظر بل ان الدخول والتجوال هناك يوجع القلب لأن كل ما بقي من المحلة القديمة ليس سوى أطلال ترثي نفسها بنفسها وهي تعيش التداعيات والانكسارات والهزائم الزمانية على الرغم من أنها في بعض من جانب البناء الأرضي تحاول ان تكشف عن ما تبقى من جمال وسحر لديها في الأبواب والشبابيك والشناشيل وملامح من المعمار عسى ان تلفت النظر إليها لتشعر بابتسامة ما في وجهها أو أن يؤدي الحزن عليها الى اقتلاعها من الأساس لتقوم بدلاً عنها بيوت تشبهها، لأن البكاء وحده سيكون الشاهد على ما صارت عليه التي اسمها (محلة)، وهذا ما كنت أراه وأنا أتجول في المكان باحثاً عنها حين كنت أدخل من هنا وأخرج من هناك فأتنفس حزناً ولا أجد إلا أن أبتئس، ثمة ملامح تكاد تصرخ بأعلى صوتها أنها بقايا محلة بغدادية قديمة عريقة لا تقوم لها قائمة !.

صدى الخطى

وقفت أمام باب قديم تأملته كأنني أتأمل الأكفّ التي مرت على سطحه والأصابع التي مسكت عروته والطرقات التي زغردت منه، خفتُ أن أمرر يدي عليه لسبب لا أعرفه، وكنت أعاين الأرض عسى أن أسمع صدى الخطى التي مرت عليها وأصغي إلى الأحاديث العابرة للناس العابرين من هناك في الليل والنهار، او على التراب او الطين، لكن ذاك لم يكن بسبب الصخب الذي جعلني أرفع رأسي لتتناهى الى سمعي مناداة بائع الماء (السقّاء) وهو يمر في الدرابين موزعاً ماءه على الناس، فيما لفتت انتباهي كلمات مكتوبة على حائط لدربونة صغيرة جداً مغلقة نهايتها بباب حديدي صديء (أخي العامل نرجو الهدوء عند السير حفاظاً على راحة الجار)، فما وجدت داراً ولا جاراً، لكنني تصورتهما خلف الباب الحديدي الموصد، كما قرأت لافتة (الدار للبيع) على واجهات بعض البيوت على الرغم من أنها محطمة وأبوابها عتيقة جداً كأنها تتأوه في وجه ناظرها وتساءلت :من يشتري ركاماً بلا روح ولا رائحة ولا ذاكرة؟

ثلات تسميات

حملت المحلة ثلاث تسميات رسمية حسب التغيرات التي مرت بها في مراحلها الزمنية، فقد حملت أولاً اسم (سوق الغزل) ثم (الخلفاء) حيث تشير بعض السجلات العثمانية القديمة لسنة 1800 للميلاد على ان هذه المحلة كانت تسمى محلة الخلفاء، ويبدو أن أحد الولاة العثمانيين لم تعجبه تسمية (سوق الغزل) فاستبدلها تيمناً بجامع الخلفاء الذي تم بناؤه عام (295هـ -908م)، ثم سميت المحلة بـ (الجمهورية) بعد عام 1958تيمناً بثورة 14 تموز، إلا أن الناس لم يذكروها كـ (محلة) ولم يحفظوا إلا تسمية (سوق الغزل) للدلالة عليها ، لكنها لم تكن في أصلها محلة سكنية بقدر ما كانت في العصر العباسي تعد جزءاً من حريم دار الخلافة العباسية، وتؤكد المصادر التاريخية ان فيها رحبة جامع القصر (جامع الخلفاء) الذي هو الجامع الرسمي للخلفاء العباسيين (شيده الخليفة المكتفي بالله العباسي سنة 256 هـ)، وكانت هذه الرحبة تتصل بباب العامة، أحد أبواب دار الخلافة العباسية، وتؤكد المصادر التاريخية انه كان قرب هذه الرحبة سوق تباع فيه الطيور العجيبة وتقام الألعاب البهلوانية والاجتماعات الشعبية والاعلانات وغيرها، وهذه الممارسات كانت تقام بعد الصلاة وانتشار المصلين في المكان، ويقال ان أكثر العجائب والغرائب كانت تعرض يوم الجمعة لأنه يوم التجميع في الصلاة والاجتماع ،وهذا التقليد استمر الى يومنا الحاضر .

موقعها

تقع محلة سوق الغزل في وجودها الحالي على الجهة الشرقية لشارع الجمهورية على نحو 200 متر من ساحة الوثبة جنوباً ويحدها سوق الشورجة من شمالها. ويقول الدكتور عبد السلام رؤوف :إنها تقع بين محلتي التوراة والدهانة (البغداديتين القديمتين)، مؤكدا : لم تكن الحدود بين سوق الشورجة ومحلة سوق الغزل واضحة، فقد وجدنا وقفيات عدة تشير الى معالم احدى المحلتين بوصفها من معالم المحلة الأخرى، منها سوق البقال او البقالخانة وسوق الطيور وسوق البزوريين، ما زالا في مواقعهما القديمة حتى اليوم، وثمة إشارات في بعض سجلات المحكمة الشرعية الى محلة باسم (محلة الخلفاء) تاريخها سنة 1215 هـ /1800 م ، ونرجح أنها تعني محلة سوق الغزل، فقد سمي جامع القصر في القرون المتأخرة بجامع الخلفاء فتكون المحلة قد نسبت اليه .

وكانت هذه المحلة تضم عدداَ من (العكود)، لكن فتح شارع الملكة عالية ( شارع الجمهورية او شارع الخلفاء) قسمها الى قسمين متباعدين وألغى وجود تلك الأزقة الصغيرة الهادئة والبيوت الدافئة، ومن تلك العقود :الدجيلاويين، الحفرجية، الشيرجية،المزراقي، الكلخانة ،التنانير، صمور وعقد كهوة المخضر، ولم يبق من هذه العقود التابعة للمحلة اليوم سوى عقد سوق الغزل وعقد الكنيسة، وكلاهما ضائعان في فوضى المكان .
جامع سوق الغزل !

هذا المكان الذي تقع فيه محلة سوق الغزل يشتهر بمعلم مهم من معالم الحياة البغدادية في مختلف عصورها وهو (جامع الخلفاء)، الذي النظر إليه الآن يشعر بالوحشة خاصة أن طلاء السطح الخارجي للقبّة هو باللون الحنطي المائل للصفار بتدريجاته المختلفة ليتناسب مع لون المئذنة، بالإضافة إلى تغطية قاعة الصلاة بتدريجات اللون الأصفر أيضا وترتيبها في أشكال هندسية مختلفة، فهو مغلق (لأغراض الصيانة) التي طال أمدها، وفي الدوران حوله لا يمكن الشعور بأهميته إلا من خلال منارته التي يعتقد الكثيرون ان فيها ميلاناً !!.
وتذكر المصادر انه في عام 1961 تم تكليف المهندس المعماري محمد صالح مكية بإعادة تصميم وتشييد جامع الخلفاء بشكل بشبه إلى حد ما طريقة تصميم الجامع القديم قبل أكثر من ألف عام، واعتمد مكيّة في تصميمه جامع الخلفاء في بغداد على الاقتباس من العمارة الإسلامية في زمن العباسيين، لكن مع الأخذ بعين الاعتبار أن يحافظ على تكوينه المعماري الحالي، مع الإبقاء على مئذنة الجامع التي يعود تاريخ بناؤها إلى عام 1279 ودمج مكيّة تلك المئذنة بتصميم البناء الجديد، ليبدو وكأن جامع الخلفاء لم يتم هدّه مسبقاً، وتم افتتاحه بتأدية صلاة الجمعة في اليوم السادس من حزيران من العام 1966، كما تمت توسعة الجامع عام 1981بإضافة نحو 12 متراً مساحة من كل جانب من جوانب الجامع بالإضافة إلى زيادة طول الأروقة المؤدية إليها.

تأملات الغياب

حين وقفت على رصيف شارع الجمهورية مقابل سوق الغزل، تأملت ما كان عليه المكان / المحلة التي اختفى الكثير منها إسفلت الشارع ومقترباته ، ويمكن رسم التصورات عن المكان حيث اقتطعت أجزاء كبيرة من جامع الخلفاء حيث يرجح البعض ان تكون رحبة هذا الجامع هي الأرض التي شيّد عليها دير الآباء اللاتين وتوابعه سنة 1766 للميلاد ، مقابل الجامع اليوم، كما ان الخيال يستحضر (مدرسة جامع الخلفاء) التي بناها سليمان باشا الكبير والي بغداد المتوفى سنة 1217 للهجرة، وقد أزيلت أجزاء منها عند فتح شارع الخلفاء، وبقيت أجزاء أخرى منها في المسجد الجامع الأصلي، وكانت تدرّس في هذه المدرسة العلوم العقلية والنقلية، وتصدّر للتدريس فيها الشيخ عبد الله الوسواسي الموصلي الذي كان من أرباب القراءات السبع والصوت الجميل، توفي سنة 1337 للهجرة بعد الحرب العالمية الاولى، وبعد إعادة بناء جامع الخلفاء وترميم مئذنته الشهيرة. في الفترة الأخيرة قامت مديرية الأوقاف بتأسيس مدرسة لتعليم تجويد القرآن الكريم فيه .

المكان الذي تحول الى (سوق الغزل) وتباع فيه أنواع الطيور وأسماك الزينة والحيونات الأليفة والمفترسة وكل ما يخصها من مستلزمات من الطعام والأقفاص والحبال والأحواض، يضج بالصياح، يحزنني صياح البلابل وطيور الحب التي أعدادها بالآلاف التي تتكدس في الأقفاص كأنها تطالب بحريتها وتجعلنا نتساءل من أين تأتي هذه الأعداد الهائلة؟ أنواع غريبة ومخيفة من الأفاعي والكلاب والصقور وأسماك الزينة، مثلما يعج المكان بالهواة غريبي الهوايات، زحام طيلة الأيام، اما في يوم الجمعة فهو الذروة، وحين تنتبه الى المكان وتتخيل تاريخه ستجدك حائراً إزاء المحلة المفقودة التي اسمها (محلة سوق الغزل) فترثي لحالك وحالها.