أربعة ملايين موظف في دوائر لاتحتاج إلى نصفهم

1٬615

إياد عطية الخالدي /

تكاد مؤسسات الدولة تنفجر بأعداد الموظفين، الذين يشكل الملايين منهم مجرد أرقام في دوائرهم المترهلة، إذ يعتمد نحو ثمانية ملايين شخص من موظفين ومتقاعدين على رواتبها، بينهم مليونان ونصف المليون متقاعد تخصص لهم مانسبته 60 بالمائة من الموازنة المالية السنوية للدولة.
رقم هائل من الموظفين والمتقاعدين لايوجد له نظير في أغنى بلدان المنطقة، فحتى المملكة العربية السعودية التي تعد المصدر الأول للنفط في العالم لايتعدى عديد موظفيها المليون موظف.في دولة كُيفت قوانينها لحماية الموظف وعائلته، ومنحه امتيازات في مختلف التعاملات بما فيها التعاملات المالية مع البنوك، وتخصيص أرضٍ له، وجعلت الحكومات أرضاءه هدفاً لكسب التأييد الشعبي، كان من الطبيعي أن يتهافت العراقيون على وظائف الدولة التي تحسنت بشكل ملحوظ بعد عام 2003.
استغلال
وبينما جرى تحطيم القطاع الصناعي المتهالك، وإهماله بدلاً من وضع خطط للنهوض به، اندفع المواطنون الى الوظائف الحكومية وجرت عملية ضخ موظفين لم تعد بعض الوزارت والمؤسسات قادرة على استيعابهم، ومع ذلك استمرت عملية التعيين في دوائر الدولة كورقة استغلتها الأحزاب العراقية لبناء قواعد لها، وتقوية حضورها في بنية الدولة العراقية، وارتفع عديد الموظفين في العراق من مليون موظف قبل عام 2003، إحيل نصفهم الى التقاعد تدفع الدولة رواتبهم ايضاً، الى نحو أربعة ملايين موظف، أي بزيادة ثلاثة ملايين موظف.
دولة محاصصة
وبينما تأسس على أنقاص النظام السابق نظام محاصصة جديد ضرب مؤسسات الدولة في الصميم، وغدت مؤسساتها إقطاعيات حزبية، وأحياناً عائلية، غصّت بمؤيدي الأحزاب وأقاربهم، في حين اختفت أبسط التقاليد التي ترسخت منذ تأسيس الدولة والتي لم يستطع النظام السابق تجاوزها كلها خشية ارتداد نتائجها عليه، في حين أن نظام المحاصصة أطاح بكل تقاليد العمل الوظيفي، فكانت النتيجة مؤسسات مترهلة تحوّل بعضها الى بؤر للفسادين المالي والإداري.
ارتدادات
وبينما تقدم الدولة رعاية متباينة لثمانية ملايين عراقي، فإن أربعة ملايين عراقي يعيشون على خط الفقر وفقاً لإحصائيات تقدمها منظمات محلية ودولية، فيما يتزايد كل عام مؤشر البطالة خصوصاً بين الشباب وأغلبهم من خريجي الجامعات العراقية التي صارت تضخ أيادي عاملة بمهارات لاتحتاج إليها السوق العراقية، ووفقاً لآخر إحصائية أصدرتها وزارة التخطيط عام 2018 بلغت نسبة البطالة بين الشباب نحو 22 بالمائة. الإحصائية التي أعلنها الجهاز المركزي للإحصاء أشارت إلى أن “البطالة لدى الشباب الذكور بلغت 18.1%، في حين بلغت البطالة لدى الإناث نسبة55 بالمئة وبينت : “نسبة معدلات مشاركة الشباب في القوى العاملة قد بلغت 36.1%”، مبينة أن “الذكور الشباب شكلوا نسبة 61.6% مقابل 8.8% للإناث الشابات”. لكن صندوق النقد الدولي تحدث في أيار 2018 عن نسب أعلى عن البطالة بين الشباب مبيناً أن معدل بطالة الشباب في العراق يبلغ أكثر من 40%. وقد أدى ارتفاع نسبة البطالة وعجز الدولة عن استيعاب المزيد من الموظفين في دوائرها الى انحسار فرص التعيين. ويقول مواطنون إن الفرص تذهب الى الأحزاب، وقصص التعسف بتوزيع الدرجات الوظيفية طويلة ومملة ويقر بها البرلمان العراقي، فقد أكد النائب عن تحالف سائرون رائد فهمي وجود ما أسماه بـ (ممارسات الفساد) لبيع وشراء الدرجات الوظيفية، وأوضح فهمي، الذي كان يتحدث للصحفيين، أن ما يتوارد من معلومات بشأن ممارسات فساد وبيع وشراء الدرجات وتوزيعها خلافاً للضوابط والمعايير يتطلب تأمين الرقابة المطلوبة على هذه العملية. وعلى الرغم من سياسة استحواذ الأحزاب على الدرجات الوظيفية وقيام أتباعها بتوزيعها بين أقاربهم، تحوّلت ورقة التعينيات من مشروع سياسي لكسب الأصوات الى مشروع غضب ضد هذه السياسة التي تفتقد الى معايير العدل والإنصاف. وشهدت أغلب المدن العراقية تظاهرات كبيرة قادها شباب غاضبون يبحثون عن فرص عمل، ينبغي على الدولة توفيرها لهم، ولعل الاحتجاجات التي شهدتها البصرة ومدن الجنوب في العام الفائت كانت رسالة كافية لتعي القوى النافذة أن سياستها صارت ترتد عليها، وبدلاً من كسب الأتباع باتت تغضب الملايين الذين لم يعد بالإمكان استيعابهم في مؤسسات الدولة بعد أن أرهقت الرواتب الميزانية العامة للدولة.
لكن الفساد في الوظائف الحكومية لا يشتمل على مجرد التعيين، فالوظائف المهمة في السفارات وفي الدوائر ذات الامتيازات العالية تمنح للأقارب ولموظفين لم يكملوا تعليمهم، فقد تجد خريج معهد النفط او خريجاً يحمل شهادة الابتدائية يُعين في وظيفة إدارية في البرلمان او رئاسة الوزراء أو في أي موقع مهم آخر، وقد أشار النائب رحيم الدراجي، عضو اللجنة المالية في البرلمان، في أكثر من حديث متلفز الى وجود (عوائل كاملة) تعمل في مجلس النواب بينها نحو 800 موظف (فائض) أغلبهم يحملون شهادة الإبتدائية. وفي الواقع فإن الفضائيين، وهو مصطلح أطلق على (موظفين يحصلون على رواتبهم من دون عمل)، يمثل مشكلة أساسية في كل مؤسسات الدولة، وقد نافس عدد كبير من الفضائيين ذوي المهن الحرة، وكثيراً ماشكا سائقو المركبات وموظفون في القطاع الخاص من منافسة غير عادلة من أفراد لايعملون في دوائرهم. ونقل الدراجي عن مدير مصرف حكومي قوله “إن لديه 750 موظفاً، 350 منهم ليست لديهم شهادة أو يمتلكون شهادة ابتدائية، وهم أيضاً فائضون عن العمل.”
معضلات.. مزادات
وفي الواقع فإن الامتيازات والمرتّبات التي حصل عليها أفراد نتيجة عملهم بمواقع مهمة في الدولة فتحت لهم فرصة إكمال دراستهم في كليات بعضها متهم أيضاً بالفساد العلمي منحت شهادات لطلاب لم يشاهدوا في الكليات إلا في الامتحانات و تسلموا بعد اربع سنوات شهاداتهم التي وفرت لهم امتيازات واسعة تضمنها سلم رواتب الدولة.
يقول الأستاذ الدكتور علاوي سادر جازع، عميد كلية التربية، إن المميزات الكبيرة التي وضعتها الدولة دفعت الكثيرين الى نيل شهادة الدكتوراه بالتوازي مع رغبة السياسيين بالحصول على الشهادة، وأشار إلى أنه في عام واحد حصل نحو ستة آلاف طالب على الشهادة العليا من جامعة بغداد، وهو أمر لم يحدث في تاريخ التعليم، إذ اكتشف أن أغلب الأطروحات المتقدمة مزيفة ومستنسخة من أطروحات قديمة، لكن جرى التغاضي عنها لأنها شملت سياسين بارزين. لافتاً إلى أن العراقيين بعد تحسن مستواهم ذهبوا لجلب شهادات تضمن لهم العمل بمرتّبات عالية من دول متهمة على نطاق واسع ببيع الشهادات.
وهذه الملفات من الصعوبة والتعقيد حلها، في غياب إرادة سياسية تعالج معضلات الدولة وتضعها على السكة الصحيحة.
مجلس الخدمة
وقد عملت القوى السياسية العراقية على إجهاض تأسيس مجلس الخدمة الاتحادي، وهو أحد أجهزة الدولة العراقية التي استحدثت في منتصف القرن الفائت إبان العهد الملكي باسم مجلس الخدمة العام والمعني بتعيين الموظفين بحسب حاجة الدولة والدرجات المخصصة لهم، وأعلن رئيس مجلس الوزراء عادل عبد المهدي إعادة فتح الترشيح للمتقدمين لشغل عضوية المجلس،كما شدد النائب وليد السهلاني، وخلال مؤتمر صحفي عقد في مجلس النواب، على ضرورة الإسراع في تشكيل مجلس الخدمة الاتحادي بسبب المشاكل الكبيرة التي حصلت في موضوع التعيينات وغياب العدالة في توزيع الدرجات ما أدى الى عدم الإنصاف وحرمان شرائح من استحقاقتها في الحصول على وظيفة في الدولة.
تحول كبير
وفي عام 2014 دخل العراق في مفترق اقتصادي خطير،أربك حسابات الدولة وأنهك موازناتها، فمع تزايد كلف الحرب ضد “داعش” الإرهابي، وانخفاض أسعار النفط من 120 دولاراً للبرميل الى ما دون الـ 40 دولاراً، وجدت الدولة نفسها منشغلة بتوفير مرتّبات الموظفين العراقيين في ذات الوقت الذي كانت تخوض فيه حرباً بكل ماتعنيه الحرب من تكاليف باهظة. مثل هذا الواقع المرير شكّل انعطافة كبيرة في سياسة الدولة وفكرها القائم على الاعتماد على واردات النفط،ما دفعها الى الاستعانة بخبراء في الاقتصاد بهدف إيجاد مخارج وحلول لإصلاح الوضع الاقتصادي الذي وصل الى حافة الانهيار. وقد نجم عن تلك الأزمة المالية وقف تخصيص درجات وظيفية ضمن الموازنات السنوية منذ العام 2015 حتى عام 2019، والإبقاء فقط على تخصيص درجات للملاكات الطبية والأمنية، ضمن إجراءات تقشفية التزمت بها حكومة رئيس الوزراء السابق حيدر العبادي وإطلاق مايسمى بـ(الستراتيجية الصناعية في العراق) بهدف إنعاش القطاع الصناعي لتعظيم واردات البلد واستيعاب الأيدي العاملة، كحل للتضخم الكبير في عدد الموظفين في الدولة ، وحيث أن بناء قطاع صناعي ناجح يعني وضع البلاد على سكة النمو والازدهار.
لكن بعد أربع سنوات على إطلاق هذه الستراتيجية يمكن القول إنها اصطدمت بعقبات أدت الى إخفاقات كبيرة.
إخفاق
وبينما يستوعب القطاع الخاص السعودي، مثلاً، نحو 11 مليون فرصة عمل لتشغيل السعوديين والأجانب، فإن القطاع الخاص العراقي يواجه وضعاً بائساً لايمكنه تلبية فرص عمل جادّة للعراقيين، ولاسيما القطاع الصناعي الذي لايتعدى عدد العاملين فيه أكثر من مئة وخمسين ألف فرصة.
ولايحصل العاملون فيه على نصف المرتّبات التي تمنحها الحكومة، فضلاً عن الضمانات القانونية التي تحميهم، ولاسيما قانون التقاعد.
يقول علي الساعدي، رئيس اتحاد الصناعيين العراقيين: “اذا جرى دعم القطاع الخاص بعدد المصانع الموجودة حالياً والتي تعمل بـ 15 بالمائة من طاقتها فإن القطاع الصناعي سيستوعب نحو مليون فرصة عمل خلال عام واحد.”
وأكد الساعدي، الذي كان يتحدث لـ ” الشبكة العراقية”، أن القوانين والبيروقراطية والفساد المستشري تحول دون تقدم القطاع الصناعي الذي يحتاج الى قوانين تنمّيه وتحميه.
وأشار إلى أن المصرف الصناعي لايساعد على قيام نهضة صناعية مأمولة، فهو يتعامل مع القطاع الصناعي كتعامل أي مصرف تجاري بسبب القوانين، إذ لايمنح قروضاً إلى الصناعيين إلا بضمانات عقارية، والأدهى أنه يعطي قرضاً بنسبة 40 بالمئة من قيمة العقار، ماجعل الصناعيين يعزفون عن التعامل معه باستثناء المضطرين منهم.
وانتقد الساعدي عمل هيئة الاستثمار، وعدم تعاونها مع الصناعيين، وإلى وضع العراقيل أمامهم، مبيناً أن الهيئة منحت أفضل الأراضي في بغداد الى مستثمرين لإنشاء مولات مليئة بالبضائع الأجنبية، فيما كان يمكن أن يمتلئ نصفها بمنتجات عراقية.
وعزا المستشار الاقتصادي مظهر محمد صالح عدم تحقيق نتائج في النهوض بالقطاع الخاص إلى أن البلاد كانت تخوض حرباً كبيرة، والى الفساد المستشري في البلاد والى الحاجة لقوانين تدعمها لابد أن يشرعها البرلمان.
وأكد أن الستراتيجية الجديدة تركز على إيجاد حلول لمشكلة الاعتماد على الوظائف العامة وعلى إيجاد فرص للتشغيل والتوجه الى القطاع العام لحل هذه المعضلة.
وأشار الى أهمية تكييف قوانين الدولة لشمول العاملين بالقطاع الخاص بضمانات الحماية والضمان والتقاعد ومساواتهم مع الموظفين في تعاملات الدولة المختلفة مشدداً على أهمية أن تكون المرتّبات في القطاع الخاص تكفي لمتطلبات المواطن المعيشية.
وبين صالح أن العامين الفائتين شهدا إطلاق مجموعة من التوجيهات تسهل على الأفراد والشركات الحصول على قروض من المصارف بشكل ميسَّر.
غول الفساد
يقول الاقتصادي خالد العضاض إن الفساد المستشري في البلاد تمكن دائما من التحايل على الأنظمة والقوانين، ونحج في إجهاض كل مامن شأنه أن يسهم بدفع عجلة البناء في البلاد وجعلها أسيرة مقيدة وعاجزة عن تحقيق الاكتفاء حتى في لقمة عيشها ،مشيراً الى أنه حتى الأموال التي خصصت للنهوض بقطاع الزراعة في السنوات الفائته ذهبت الى غير مكانها بسبب الفساد الإداري الذي صار حتى المواطن جزءاً من ثقافته.
وشدد العضاض على أن البلاد مرغمة الآن على إيجاد حلول لمعضلة حقيقية تواجه البلاد، فسياسة التوظيف التي اعتمدتها وضعت الاقتصاد العراقي في نفق مظلم لطالما حذر منه أهل الخبرة الاقتصادية. ودعا الدولة الى مواجهة جدية لمحاربة الفساد وإلا فإن جميع جهودها الإصلاحية المتإخرة ستذهب أدراج الرياح، ولن تحقق التنمية المنشودة، ولاحتى إنقاذ وضع الدولة المعتمد كلياً على واردات النفط.